الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
786- رَائِي النَّبِيِّ مُسْلِماً ذُو صُحْبَةِ *** وقيلَ: إنْ طالَتْ ولم يُثَبَّتِ 787- وقيلَ: مَنْ أقامَ عاماً وغَزَا *** مَعْهُ وذَا لابْنِ الْمُسَيِّبِ عَزَا 788- وتُعْرَفُ الصُّحبةُ باشتهارٍ اوْ *** تَوَاتُرٍ أَوْ قوْلِ صاحبٍ وَلَوْ 789- قد ادَّعَاهَا وَهْوَ عَدْلٌ قُبِلا *** وهُمْ عُدولٌ قِيلَ: لا مَنْ دَخَلا 790- فِي فِتنةٍ والْمُكْثِرونَ سِتَّةُ *** أَنَسٌ وابنُ عمرَ الصِّدِّيقَةُ 891- البحْرُ جَابِرٌ أبو هُريرةِ *** أكثَرُهم والبحْرُ في الحقيقةِ 792- أكثَرُ فَتْوَى وَهْوَ وابنُ عُمَرَا *** وابنُ الزُّبَيْرِ وابنُ عَمْرٍو قدْ جَرَى 793- عليهمُ بالشُّهرةِ العَبَادِلَهْ *** ليسَ ابنَ مسعودٍ ولا مَنْ شاكَلَهْ 794- وَهْوَ وزيدٌ وابنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ *** في الفِقْهِ أَتباعٌ يَرَوْنَ قَوْلَهُمْ 795- وقالَ مَسروقُ: انْتَهَى العلْمُ إِلَى *** سِتَّةِ أصحابٍ كِبَارٍ نُبَلا 796- زَيْدٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ معْ أُبَيِّ *** عُمَرَ عبدِ اللَّهِ مَعْ عَلِيِّ 797- ثُمَّ انْتَهَى لِذَيْنِ والبعْضُ جَعَلْ *** الأشعريَّ عنْ أبي الدَّرْدَا بَدَلْ. [ذكر الكتب المهمة في هذا الفن] (معرفةُ الصحابةِ): هذا حينُ الشُّرُوعِ في الرجالِ وطبقاتِ العلماءِ وما يتَّصِلُ بذلكَ. ومعرفةُ الصحابةِ فنٌّ جليلٌ، وفائدتُهُ التمييزُ للمُرْسَلِ، والحُكْمُ لهم بالعدالةِ، وغيرُ ذلكَ. ولأئمَّتِنا فيهِ تَصانيفُ كثيرةٌ؛ كَعَلِيِّ بنِ المَدِينيِّ في كتابِهِ (مَعْرفةِ مَنْ نزَلَ من الصحابةِ سَائِرَ البُلْدانِ)، وهوَ في خمسةِ أجزاءٍ فيما ذكَرَهُ الخطيبُ، يَعْنِي لطيفةً. وكالبُخاريِّ، وقالَ شيخُنا: إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صنَّفَ فيها فِيمَا عُلِمَ. وكالتِّرْمذيِّ ومُطَيَّنٍ وأبي بَكْرِ بنِ أبي دَاوُدَ وعَبْدانَ وأَبِي عَلِيِّ بنِ السَّكَنِ في (الحروفِ)، وأبي حَفْصِ ابنِ شاهِينَ، وأبي مَنْصورٍ البَاوَرْدِيِّ، وأبي حاتمِ بنِ حِبَّانَ، وأبي العَبَّاسِ الدَّغُولِيِّ، وأبي نُعَيْمٍ، وأبي عبدِ اللَّهِ بنِ مَنْدَهْ، والذَّيْلِ عليهِ لأبي مُوسَى المَدِينيِّ، وكأبي عُمَرَ بنِ عبدِ البَرِّ في (الاستعيابِ)، وهوَ كما قالَ النَّوويُّ منْ أَحْسَنِها وأكثرِها فوائِدَ، لَوْلا ما شَانَهُ بذِكْرِ ما شَجَرَ بينَ الصحابةِ، وحكايتِهِ عن الأَخْبَارِيِّينَ. والذَّيْلِ عليهِ بجماعةٍ؛ كأَبِي إسحاقَ بنِ الأَمِينِ وأبي بكرِ بنِ فتحونَ، وهُما مُتعاصرانِ، وثَانِيهِما أحْسَنُهما. واختصَرَ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقوبَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ الخليليُّ الاستعيابَ، وسَمَّاهُ (إعلامَ الإصابةِ بأعلامِ الصحابةِ). في آخرِينَ يَعْسُرُ حَصْرُهم؛ كأَبِي الحَسَنِ مُحَمَّدِ بنِ صالحٍ الطَّبَريِّ، وأبَوَيِ القاسمِ البَغَوِيِّ والعُثمانيِّ، وأبي الحَسَنِ بنِ قَانِعٍ في مَعَاجِيمِهم. وكذا الطَّبَرانيُّ في مُعْجَمِهِ الكبيرِ خاصَّةً. وكانَ منهم على رَأْسِ القرنِ السابعِ العِزُّ أبو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الجَزَريُّ ابنُ الأثيرِ أَخُو أبي السَّعاداتِ صَاحِبِ (النهايَةِ في الغريبِ) في كتابٍ حافلٍ سَمَّاهُ (أَسَدَ الغَابةِ) جمَعَ فيهِ بَيْنَ عِدَّةٍ من الكتبِ السابقةِ، ولكنَّهُ معَ ضَبْطِهِ وتحقيقِهِ لأشياءَ حسَنَةٍ لم يَستوعِبْ ولم يُهذِّبْ، ومعَ ذلكَ فَعَلَيْهِ المُعوَّلُ لمَنْ جاءَ بعدَهُ، حتَّى إنَّ كُلاًّ من النَّوَوِيِّ والكَاشْغَرِيِّ اختصَرَهُ، واقتصَرَ الذَّهَبِيُّ على تجريدِهِ، وزادَ عليهِ الناظِمُ عِدَّةَ أسماءٍ. ولأبي أحمدَ العسكريِّ فيها كِتَابٌ رَتَّبَهُ على القبائلِ. ولأبي القاسمِ عبدِ الصَّمَدِ بنِ سعيدٍ الحِمْصِيِّ الذي نَزَلَ منهم حِمْصَ خَاصَّةً، ولمُحَمَّدِ بنِ الربيعِ الْجِيزِيِّ الذي نزَلَ مِصْرَ، ولأبي مُحَمَّدِ بنِ الجَارُودِ الآحادُ منهم. وللحَافظِ عبدِ الغَنِيِّ بنِ عبدِ الواحدِ المَقْدِسيِّ (الإصابةُ لأَوْهَامٍ حَصَلَتْ في معرفةِ الصحابةِ لأبي نُعَيمٍ) في جزءٍ كَبيرٍ. ولخليفةَ بنِ خَيَّاطٍ، ومُحمَّدِ بنِ سَعْدٍ، ويَعْقوبَ بنِ سُفْيانَ، وأبي بكرِ بنِ أبي خَيْثمةَ وغيرِهم، في كُتُبٍ لم يَخُصُّوها بِهِم، بلْ يُضَمُّ مَنْ بَعْدَهم إليهم. وقد انتَدَبَ شيخُنا لجَمْعِ ما تَفرَّقَ مِنْ ذلكَ، وانتَصَبَ لدفعِ المُغْلَقِ منهُ على السَّالكِ، معَ تحقيقِ الْغَوَامِضِ، وتوفيقِ بينَ ما هوَ بِحَسَبِ الظاهرِ كالمُتَنَاقِضِ، وزياداتٍ جَمَّةٍ وتَتِمَّاتٍ مُهمَّةٍ في كتابٍ سَمَّاهُ (الإصابةَ)، جعَلَ كلَّ حرفٍ منهُ غالباً على أربعةِ أقسامٍ: الأوَّلُ: فيمَنْ ورَدَتْ رِوَايتُهُ أوْ ذِكْرُهُ منْ طريقٍ صحيحةٍ أوْ حَسَنَةٍ أوْ ضعيفةٍ أوْ مُنْقَطعةٍ. الثاني: مَنْ لهُ رُؤْيَةٌ فقطْ. الثالثُ: منْ أدرَكَ الجاهليَّةَ والإسلامَ، ولم يَرِدْ في خَبَرٍ أنَّهُ اجتمَعَ بالنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. الرابعُ: مَنْ ذُكِرَ في كُتُبِ مُصَنِّفِي الصحابةِ أوْ مُخْرِجِي المسانيدِ غَلَطاً، معَ بيانِ ذلكَ وتحقيقِهِ مِمَّا لم يُسْبَقْ إلى غَالِبِهِ. وهذا القِسْمُ هوَ المقصودُ بالذاتِ منهُ، وقدْ وقَعَ التنبيهُ فيهِ على عجائبَ يُسْتغرَبُ وُقُوعُ مثلِها، وماتَ قبلَ عَمَلِ المُبْهماتِ، وأَرْجُو عَمَلَها.
[تعريف الصحابي لغة واصطلاحا] إذا عُلِمَ هذا، فَفِي هذا البابِ عَشَرَةُ مسائِلَ: الأُولَى: في تعريفِ الصحابيِّ. وفيهِ لأبي عبدِ اللَّهِ بنِ رُشَيْدٍ: (إيضاحُ المَذاهبِ فيمَنْ يُطْلَقُ عليهِ اسمُ الصاحبِ). وهُوَ لُغَةً: يَقَعُ على مَنْ صَحِبَ أقَلَّ ما يُطْلَقُ عليهِ اسْمُ صُحْبَةٍ، فَضْلاً عمَّنْ طالَتْ صُحْبَتُهُ، وكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ. وفي الاصطلاحِ: (رَائِي النَّبِيِّ) صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، اسمُ فاعلٍ مِنْ رَأَى، حالَ كونِهِ (مُسْلِماً) عاقلاً (ذُو صُحْبَةِ) على الأصَحِّ، كما ذهَبَ إليهِ الجمهورُ من المُحدِّثِينَ والأُصولِيِّينَ وغيرِهم، اكتفاءً بمُجرَّدِ الرُّؤْيَةِ ولوْ لَحْظَةً، وإنْ لم يَقَعْ معَها مُجالسةٌ ولا مُماشاةٌ ولا مُكَالَمةٌ؛ لِشَرَفِ منزلةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ فإنَّهُ كما صرَّحَ بهِ بعضُهم إذا رَآهُ مُسْلِمٌ أوْ رَأَى مُسْلماً لحظةً طُبِعَ قلبُهُ على الاستقامةِ؛ لأنَّهُ بِإِسْلامِهِ مُتَهَيِّئٌ للقَبُولِ، فإذا قابلَ ذلكَ النورَ العظيمَ أشَرَفَ عليهِ، فظهَرَ أَثَرُهُ على قَلْبِهِ وعلى جوارحِهِ. ومِمَّن نَصَّ على الاكتفاءِ بها أحمدُ؛ فإنَّهُ قالَ: مَنْ صَحِبَهُ سنةً أوْ شهراً أوْ يوماً أوْ ساعةً، أوْ رَآهُ فهوَ منْ أصحابِهِ. وكذا قالَ ابنُ المَدينِيِّ: مَنْ صَحِبَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أوْ رَآهُ ولوْ ساعةً مِنْ نهارٍ، فَهُوَ منْ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. وَتَبِعَهُمَا تِلْمِيذُهُما البخاريُّ فقالَ: مَنْ صَحِبَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أوْ رَآهُ من المسلمينَ فهوَ منْ أصحابِهِ. قيلَ: ويَرِدُ على ذلكَ تَوَقُّفُ معرفةِ الشيءِ على نفسِهِ فَيَدُورُ؛ لأنَّ (صَحِبَ) يَتوَقَّفُ على الصحابيِّ، والعكسُ. لكنْ يُمكِنُ أنْ يُقالَ: مُرادُهم بِصَحِبَ: الصُّحْبَةُ اللُّغويَّةُ، وبالصَّحَابِيِّ: المعنَى الاصطلاحيُّ. على أنَّ القاضِيَ أبا بكرِ بنَ الطَّيِّبِ الْبَاقِلاَّنِيَّ قالَ: لا خِلافَ بينَ أهلِ اللغةِ أنَّ الصحابيَّ مُشْتَقٌّ من الصُّحْبَةِ جَارٍ على كلِّ مَنْ صَحِبَ غيرَهُ قليلاً أوْ كثيراً، يُقالُ: صَحِبَهُ شهراً أوْ يوماً أوْ ساعةً. قالَ: وهذا يُوجِبُ في حُكْمِ اللغةِ إجراءَ هذا على مَنْ صَحِبَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ولوْ ساعةً، هذا هوَ الأصْلُ. قالَ: ومعَ هذا فقدْ تَقرَّرَ للأُمَّةِ عُرْفٌ في أنَّهم لا يَسْتعمِلونَهُ إلاَّ فِيمَنْ كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ، وذكَرَ المذهَبَ الثانِيَ. وكذا قالَ صَاحِبُهُ الخَطيبُ أيضاً: لا خلافَ بينَ أهْلِ اللغةِ أنَّ الصُّحْبَةَ التي اشْتُقَّ منها الصحابيُّ لا تُحَدُّ بزَمَنٍ، بلْ يَقولُ: صَحِبْتُهُ سَنَةً، وصَحِبْتُهُ ساعةً. ولِذَا قالَ النَّووِيُّ في مُقدِّمَةِ (شرحِ مُسلمٍ) عَقِبَ كلامِ القاضي أبي بكرٍ: وبهِ يُستدَلُّ على ترجيحِ مذهَبِ المُحدِّثِينَ؛ فإنَّ هذا الإمامَ قدْ نقَلَ عنْ أهلِ اللغةِ أنَّ الاسمَ يَتناوَلُ صُحْبَةَ ساعةٍ أوْ أكثرَ، وأهلُ الحديثِ قدْ نَقَلُوا الاستعمالَ في الشرعِ والعُرْفِ على وَفْقِ اللغةِ، فوجَبَ المصيرُ إليهِ. قُلْتُ: إِلاَّ أنَّ الإسلامَ لا يُشْتَرَطُ في اللُّغَةِ، والكُفَّارُ لا يَدخُلونَ في اسمِ الصُّحْبةِ بالاتِّفَاقِ، وإنْ رَأَوْهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. وقالَ ابنُ الجَوْزِيِّ: الصُّحْبَةُ تُطْلَقُ ويُرَادُ مُطْلَقُها، وهوَ المرادُ في التعريفِ، وتَأْكِيدُها بحيثُ يَشْتَهِرُ بهِ، وهيَ المُشتمِلةُ على المُخَالَطةِ والمُعاشَرةِ، فإذا قُلْتَ: فُلانٌ صَاحِبُ فلانٍ، لم يَنصَرِفْ- يعني: عُرْفاً- إلاَّ للمُؤَكَّدةِ؛ كخَادمِ فلانٍ. وقالَ الآمِدِيُّ: الأشْبَهُ أنَّ الصحابيَّ مَنْ رآهُ. وحَكَاهُ عنْ أحمدَ وأكثرِ أصحابِنا. واختارَهُ ابنُ الحاجبِ أيضاً؛ لأنَّ الصُّحْبَةَ تَعُمُّ القليلَ والكثيرَ، فَلَوْ حَلَفَ أنْ لا يَصْحَبَهُ حَنِثَ بلَحْظَةٍ. ويَشْمَلُ الصَّحَابِيُّ الأَحْرَارَ والمَوَالِيَ، الذُّكُورَ والإناثَ؛ لأنَّ المرادَ بهِ الجنسُ. ثمَّ إنَّ التعبيرَ في التعريفِ بالرُّؤْيَةِ هوَ في الغالِبِ، وإلاَّ فالضَّرِيرُ الذي حَضَرَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، كابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وغيرِهِ، معدودٌ في الصحابةِ بلا تَرَدُّدٍ. ولِذَا عَبَّرَ غيرُ واحدٍ باللِّقَاءِ بدَلَ الرؤيَةِ. وإنْ قِيلَ: إنَّها تكونُ من الرَّائِي بنفسِهِ وكذا بغيرِهِ، لكانَ مَجَازاً، وكأنَّهُ لَحَظَ شُمُولَها بالقُوَّةِ أوْ بالفعلِ، وهوَ حَسَنٌ. وأمَّا الصغيرُ غيرُ المُمَيِّزِ؛ كعبدِ اللَّهِ بنِ الحارثِ بنِ نَوْفَلٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحَةَ الأنصاريِّ، وغيرِهما مِمَّنْ حَنَّكَهُ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ودَعَا لهُ، ومُحَمَّدِ بنِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ المولودِ قبلَ الوفاةِ النبويَّةِ بثلاثةِ أشْهُرٍ وأيَّامٍ، فهوَ وإنْ لم تَصِحَّ نسبةُ الرؤيَةِ إليهِ، صَدَقَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رَآهُ، ويَكونُ صَحَابِيًّا منْ هذهِ الحَيْثيَّةِ خاصَّةً. وعليهِ مَشَى غيرُ واحدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ في الصحابةِ؛ خِلافاً لِلسَّفَاقُسِيِّ شارحِ البُخاريِّ؛ فإنَّهُ قالَ في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ ثَعْلبةَ بنِ صُعَيْرٍ، وكانَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عامَ الفتحِ ما نَصُّهُ: إنْ كانَ عبدُ اللَّهِ هذا عَقَلَ ذلكَ أوْ عَقَلَ عنهُ كلمةً كانتْ لهُ صُحْبَةٌ، وإلاَّ كانتْ لهُ فضيلةٌ، وهوَ في الطَّبقةِ الأُولَى من التابعِينَ. وإليهِ ذهَبَ العَلائِيُّ؛ حيثُ قالَ في بعضِهم: لا صُحْبَةَ لهُ، بلْ ولا رُؤْيَةَ، وحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ. وهوَ إنْ سَلِمَ الحُكْمُ لحديثِهم بالإرسالِ؛ فإنَّهم منْ حيثُ الروايَةُ أَتْبَاعٌ، فهوَ فيما نَفاهُ مُخالفٌ للجمهورِ. وقدْ قالَ شيخُنا في (الفتحِ): إنَّ أحاديثَ هذا الضَّرْبِ مَرَاسِيلُ. قالَ: والخلافُ الجَارِي بينَ الجمهورِ وبينَ أبي إسحاقَ الإِسْفَرَايِينِيِّ ومَنْ وَافَقَهُ على رَدِّ المراسيلِ مُطْلَقاً، حتَّى مَرَاسيلِ الصحابةِ، لا يَجْرِي في أحاديثِ هؤلاءِ؛ لأنَّ أحاديثَهم منْ قَبيلِ مراسيلِ كبارِ التابعِينَ لا منْ قَبيلِ مراسيلِ الصحابةِ الذينَ سَمِعُوا من النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. قالَ: وهذا مِمَّا يُلْغَزُ بهِ فَيُقَالُ: صَحَابِيٌّ حَدِيثُهُ مُرْسَلٌ، لا يَقْبَلُهُ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصحابةِ. انتهى. ولأَجْلِ اختيارِ عَدِّ غيرِ المُميِّزِينَ في الصحابةِ كانَتْ في بيتِ الصِّدِّيقِ أَرْبَعَةٌ من الصحابةِ في نَسَقٍ، وهم: مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بَكْرِ بنِ أبي قُحافَةَ؛ كما سَيَأْتِي معَ ما يُلائِمُهُ في روايَةِ الآبَاءِ عن الأبناءِ إنْ شاءَ اللَّهُ. وكذا يَدْخُلُ فيهم مَنْ رَآهُ وآمَنْ بهِ من الجِنِّ؛ لأنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بُعِثَ إليهم قَطْعاً، وهم مُكلَّفونَ، فيهم العُصاةُ والطائِعونَ؛ ولذا قالَ ابنُ حَزْمٍ في الأَقْضِيَةِ منْ (المُحَلَّى):
قدْ أعْلَمَنا اللَّهُ أنَّ نَفَراً من الجنِّ آمَنُوا وسَمِعُوا القرآنَ من النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فَهُم صَحابةٌ فُضلاءُ. وحينَئذٍ يَتعَيَّنُ ذِكْرُ مَنْ عُرِفَ منهم في الصحابةِ، ولا الْتِفَاتَ لإنكارِ ابنِ الأثيرِ على أَبِي مُوسَى المَدينيِّ تَخريجَهُ في الصحابةِ لبعضِ مَنْ عَرَفَهُ منهم؛ فإنَّهُ لم يَسْتَنِدْ فيهِ إلى حُجَّةٍ. وهلْ يَدْخُلُ مَنْ رآهُ مَيِّتاً قبلَ أنْ يُدْفَنَ؟ كما وقَعَ لأَبِي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ الشاعرِ إنْ صَحَّ. قالَ العِزُّ بنُ جماعةَ: لا على المشهورِ. وقالَ شَيْخُنا: إنَّهُ مَحلُّ نَظَرٍ. والراجحُ عدَمُ الدخولِ، وإلاَّ لَعُدَّ مَن اتَّفَقَ أنْ يَرَى جَسَدَهُ المُكَرَّمَ وهوَ في قَبْرِهِ المُعظَّمِ ولوْ في هَذِهِ الأعصارِ، وكذلكَ مَنْ كُشِفَ لهُ عنهُ من الأولياءِ فرَآهُ كذلكَ على طَرِيقِ الكرامةِ؛ إذْ حُجَّةُ مَنْ أثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ رَآهُ قبلَ دَفْنِهِ أنَّهُ مُسْتَمِرُّ الحياةِ، وهذهِ الحياةُ لَيْسَتْ دُنيويَّةً، وإنَّما هيَ أُخْرَوِيَّةٌ، لا تَتعَلَّقُ بها أحكامُ الدُّنيا؛ فإنَّ الشهداءَ أحياءٌ، ومعَ ذلكَ فإنَّ الأحكامَ المُتعلِّقَةَ بهم بعدَ القتلِ جاريَةٌ على سَنَنِ غيرِهم من المَوْتَى. انتهى. وسبَقَهُ شَيْخُهُ المُؤَلِّفُ فَمَالَ أيضاً إلى المنعِ؛ فإنَّهُ قالَ في التقييدِ الظاهرِ اشتراطَ الرؤيَةِ وهوَ حَيٌّ، لكنَّهُ عَلَّلَهُ بما هوَ غيرُ مَرْضِيٍّ؛ حيثُ قالَ: فإنَّهُ قد انقطَعَت النُّبُوَّةُ بوفاتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. ولِذَا لَمَّا أشارَ ابنُ جماعةَ إلى حكايتِهِ معَ إبهامِ قائلِهِ توَقَّفَ فيهِ وقالَ: إنَّهُ مَحلُّ بَحْثٍ وتأمُّلٍ. بلْ أضرَبَ المُؤلِّفُ نفسُهُ في شرحِهِ عن التعليلِ بهِ مُقتصِراً على الحكمِ فقطْ، وكأنَّهُ رُجوعٌ منهُ عنهُ. وقالَ العلائيُّ: إنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يُعْطَى حُكْمَ الصُّحبةِ؛ لِشَرَفِ ما حصَلَ لهُ منْ رؤيتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قبلَ دَفْنِهِ وصلاتِهِ عليهِ. قالَ: وهوَ أقْرَبُ مِنْ عَدِّ المُعَاصِرِ الذي لم يَرَهُ أصْلاً فيهم، أو الصغيرِ الذي وُلِدَ في حياتِهِ. وقالَ البَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ: ظاهرُ كلامِ ابنِ عبدِ البَرِّ نَعَمْ؛ لأنَّهُ أثبَتَ الصُّحبةَ لمَنْ أسْلَمَ في حياتِهِ وإنْ لم يَرَهُ، يعني فيَكونُ مَنْ رَآهُ قبلَ الدَّفْنِ أَوْلَى. وجزَمَ البُلْقِينيُّ بأنَّهُ يُعَدُّ صحابيًّا؛ لِحُصولِ شَرَفِ الرؤيَةِ لهُ، وإنْ فَاتَهُ السَّمَاعُ، قالَ: وقدْ ذكَرَهُ في الصحابةِ الذَّهَبِيُّ في التجريدِ. وما جَنَحَ إليهِ شَيْخُنا منْ تَرجيحِ عَدَمِ دخولِهِ قدْ سَبَقَهُ إليهِ الزَّرْكَشِيُّ، فقالَ: الظَّاهِرُ أنَّهُ غيرُ صحابِيٍّ. انتهى. وعلى هذا فَيُزَادُ في التعريفِ: قبلَ انتقالِهِ من الدُّنيا. وكذا لا يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ في المنامِ؛ كما جزَمَ بهِ البُلْقِينيُّ ثمَّ شَيْخُنا، وإنْ كانَ قَدْ رَآهُ، فذلكَ فيما يَرْجِعُ إلى الأمورِ المعنويَّةِ، لا الأحكامِ الدنيويَّةِ، حتَّى لا يَجِبَ عليهِ أنْ يعمَلَ بما أمَرَهُ بهِ في تلكَ الحالةِ. بلْ جزَمَ البُلْقِينيُّ بعدمِ دُخولِ مَنْ رَآهُ ليلةَ الإسراءِ، يَعْنِي من الأنبياءِ والملائكةِ عليهم السلامُ مِمَّنْ لم يَبْرُزْ إلى عالَمِ الدُّنيا. وبهذا القيدِ دخَلَ فيهم عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عليهِ السلامُ؛ ولذا ذكَرَهُ الذَّهَبِيُّ في تجريدِهِ، وتَبِعَهُ شيخُنا ووَجَّهَهُ باختصاصِهِ عنْ غيرِهِ من الأنبياءِ بكونِهِ رُفِعَ على أحدِ القوليْنِ حَيًّا، وبكونِهِ يَنزِلُ إلى الأرضِ فيَقتُلُ الدجَّالَ ويَحْكُمُ بشريعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فبهذهِ الثلاثِ يدخُلُ في تعريفِ الصحابةِ. وجعَلَ بعضُهم دخولَ الملائكةِ فيهم مَبْنِيًّا على أنَّهُ هلْ كانَ مَبْعُوثاً إليهم أمْ لا؟ وعلى الثانِي مَشَى الْحَلِيمِيُّ وأقَرَّهُ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ. بلْ نقَلَ الفخرُ الرَّازِيُّ في (أسرارِ التنزيلِ) الإجماعَ عليهِ، وحَكَاهُ والبُرْهَانُ النَّسَفِيُّ في تفسيرِهما، ونُوزِعا في ذلكَ. ورَجَّحَ التَّقِيُّ السُّبكيُّ مُقَابِلَهُ؛ مُحْتَجًّا بما يَطولُ شَرْحُهُ. قالَ شيخُنا: وفي صِحَّةِ بناءِ دُخولِهم في الصَّحابةِ على هذا الأصلِ نَظَرٌ لا يَخْفَى. وما قالَهُ ظَاهِرٌ، لكنَّهُ خالَفَهُ في الفتحِ؛ حيثُ مشَى على البناءِ المُشارِ إليهِ.
وهلْ يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ منْ مُؤْمِنِي أهلِ الكتابِ قبلَ البعثةِ الشريفةِ؛ كَزَيْدِ بنِ عمرِو بنِ نُفَيلٍ الذي قالَ فيهِ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (إِنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ)؟ الظَّاهِرُ: لا. وبهِ جزَمَ شيخُنا في (مُقدِّمةِ الإصابةِ)، وزادَ في التعريفِ الماضِي: بهِ؛ ليُخْرِجَهُ؛ فإنَّهُ مِمَّنْ لَقِيَهُ مُؤْمِناً بغيرِهِ. على أنَّ لِقَائِلٍ ادِّعاءَ الاستغناءِ عن التقييدِ بهِ بإِطْلاقِ وَصْفِ النُّبُوَّةِ؛ إذ المُطْلَقُ يُحْمَلُ على الكاملِ. هذا مَعَ أنَّ شيخَنا قدْ تَرْجَمَ لهُ في إصابتِهِ تَبَعاً للبَغَويِّ وابنِ مَنْدَهْ وغيرِهما، وتَرْجَمَ ابنُ الأثيرِ للقاسمِ ابنِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، بلْ وللطَّاهِرِ وعبدِ اللَّهِ أَخَوَيْهِ في القِسمِ الثاني من الإصابةِ. ومُقْتَضَاهُ أنْ تكونَ لهم رؤيَةٌ، لكنَّهُ ذكَرَ أَخَاهُم الطَّيِّبَ في الثالثِ منها. وفيهِ نَظَرٌ، خُصوصاً وقدْ جزَمَ هشامُ بنُ الكَلْبِيِّ بأنَّ عبدَ اللَّهِ والطَّاهِرَ والطَّيِّبَ واحدٌ، اسمُهُ عبدُ اللَّهِ، والطاهِرُ والطَّيِّبُ لَقَبَانِ. ثمَّ هلْ يُشتَرَطُ في كونِهِ مُؤْمناً بهِ أنْ تَقَعَ رُؤْيَتُهُ لهُ بعدَ البَعثةِ فيُؤْمِنُ بهِ حِينَ يَراهُ، أوْ بعدَ ذلكَ؟ أوْ يَكْفِي كَوْنُهُ مُؤْمِناً بهِ أنَّهُ سَيُبْعَثُ كَمَا في بَحِيرَا الرَّاهِبِ وغيرِهِ مِمَّنْ ماتَ قبلَ أنْ يَدْعُوَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إلى الإسلامِ؟. قالَ شَيْخُنا: إنَّهُ مَحَلُّ احتمالٍ. وذكَرَ بَحِيرَا في القسمِ الرابعِ من الإصابةِ؛ لِكَوْنِهِ كانَ قبلَ البعثةِ، وأمَّا وَرَقَةُ فذَكَرَهُ في القسمِ الأولِ؛ لكونِهِ كانَ بعدَها قبلَ الدعوةِ، معَ أنَّهُ أيضاً لم يَجْزِمْ بصُحبتِهِ، بلْ قالَ: وفي إثباتِها لهُ نَظَرٌ. على أنَّ شَرْحَ النُّخْبةِ ظاهرُهُ اختصاصُ التوَقُّفِ بمَنْ لم يُدْرِك البَعثةَ؛ فإنَّهُ قالَ: وقولُهُ: (بِهِ)، هلْ يُخْرِجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤْمِناً بأنَّهُ سَيُبْعَثُ ولم يُدْرِك البَعْثةَ؟ فيهِ نَظَرٌ. وخَرَجَ بقولِهِ: مُسلماً، مَنْ رَآهُ بعدَها لَكِنْ حالَ كونِهِ كافراً، سَوَاءٌ أسْلَمَ بعدَ ذلكَ في حياتِهِ أمْ بعدَها إذا لم يَرَهُ بعدُ، وعُدُّوا منْ جُمْلَةِ المُخَضْرَمِينَ، ومَرَاسِيلُهم يَطْرُقُها احتمالُ أنْ تكونَ مَسموعةً لهم من النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حينَ رُؤْيَتِهم لهُ. على أنَّ أحمدَ خَرَّجَ في مُسندِهِ حديثَ رسولِ قَيْصَرَ، معَ كونِهِ إنَّما رَأَى النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في حالِ كُفْرِهِ. وكذا تَرْجَمَ ابنُ فتحونَ في ذَيلِهِ لعبدِ اللَّهِ بنِ صَيَّادٍ إنْ لم يَكُنْ هوَ الدجَّالَ، وقالَ: إنَّ الطَّبَرِيَّ وغيرَهُ تَرْجَمَ لهُ هكذا، وهوَ إنَّما أَسْلَمَ بعدَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. نَعَمْ، قالَ شيخُنا: يَنْبَغِي أنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مؤمناً بهِ زَمَنَ الإسراءِ، إنْ ثبَتَ أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كُشِفَ لهُ في لَيْلَتِهِ عنْ جميعِ مَنْ في الأرضِ فَرَآهُ، في الصحابةِ، وإنْ لم يَلْقَهُ؛ لِحُصُولِ الرؤيَةِ منْ جانبِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. ويَرِدُ على التعريفِ مَنْ رَآهُ مُؤْمِناً بهِ ثمَّ ارْتَدَّ بعدَ ذلكَ ولم يَعُدْ إلى الإسلامِ؛ فإنَّهُ ليسَ بصحابيٍّ اتِّفَاقاً؛ كعبدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ ومِقْيَسِ بنِ صُبابَةَ وابنِ خَطَلٍ، وحينَئذٍ فيُزادُ فيهِ: ومَاتَ عَلَى ذلكَ. على أنَّ بعضَهم انتزَعَ منْ قولِ الأشعريِّ أنَّ مَنْ ماتَ مُرْتَدًّا، تَبَيَّنَ أنَّهُ لم يَزَلْ كَافِراً؛ لأنَّ الاعتبارَ بالخاتمةِ، صِحَّةَ إخراجِهِ؛ فإنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: لم يَرَهُ مُؤْمناً. لَكِن في هذا الانتزاعِ نَظَرٌ، وإنْ تَضَمَّنَ مُخَالفةُ شيخِنا المَحَلِّيَّ المُؤَلِّفَ في التقييدِ بموتِهِ مُؤْمناً مُوَافَقَةَ الانتزاعِ؛ لأنَّهُ حِينَ رُؤْيَاهُ كانَ مُؤْمناً في الظاهرِ، وعليهِ مَدَارُ الحُكْمِ الشرعيِّ فيُسَمَّى صَحَابِيًّا، وحينَئذٍ فلا بُدَّ من القيدِ المذكورِ. وما وقَعَ لأحمدَ في مُسندِهِ منْ ذِكْرِهِ حديثَ رَبِيعَةَ بنِ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ الجُمَحِيِّ، وهوَ مِمَّنْ أسْلَمَ في الفَتْحِ وشهِدَ معَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حَجَّةَ الوداعِ، وحَدَّثَ عنهُ بعدَ موتِهِ، ثمَّ لَحِقَهُ الخِذْلانُ فَلَحِقَ في خِلافةِ عُمَرَ بالرُّومِ وتَنَصَّرَ بسببِ شَيْءٍ أغْضَبَهُ، يُمكِنُ تَوْجِيهُهُ بعدَمِ الوقوفِ على قِصَّةِ ارْتِدَادِهِ. وقدْ قالَ شيخُنا ما نَصُّهُ: وإخراجُ حديثٍ مثلِ هذا- يعني مُطْلقاً- في المسانيدِ وغَيْرِها مُشْكِلٌ، ولَعلَّ مَنْ أخْرَجَهُ لم يَقِفْ على قِصَّةِ ارتدادِهِ، فَلَو ارْتَدَّ ثُمَّ عادَ إلى الإسلامِ لكنْ لم يَرَهُ ثانياً بعدَ عَوْدِهِ. فالصحيحُ أنَّهُ معدودٌ في الصحابةِ؛ لإطْبَاقِ المُحدِّثِينَ على عَدِّ الأشعثِ بنِ قَيْسٍ ونحوِهِ؛ كقُرَّةَ بنِ هُبَيْرَةَ، مِمَّنْ وقَعَ لهُ ذلكَ فِيهِم، وإخراجِ أحاديثِهم في المسانيدِ وغيرِها، وزَوَّجَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أُخْتَهُ للأشعثِ. وقيلَ: لا؛ إذ الظاهرُ أنَّ ذلكَ يَقْطَعُ الصُّحْبَةَ وفضلَها، فالرِّدَّةُ تُحْبِطُ العملَ عندَ عامَّةِ العلماءِ؛ كأَبِي حنيفةَ. بلْ نَصَّ عليهِ الشافعيُّ في (الأُمِّ)، وإنْ حكَى الرَّافِعِيُّ عنهُ تقييدَهُ باتِّصالِها بالموتِ. وقَيَّدَ بعضُهم كونَهُ حِينَ الرُّؤْيَةِ بالِغاً عَاقِلاً، حَكَاهُ الوَاقدِيُّ عنْ أهلِ العلمِ فقالَ: رَأَيْتُ أهلَ العلمِ يقولونَ: كُلُّ مَنْ رأَى رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقدْ أدْرَكَ الحُلُمَ فأسْلَمَ وعَقَلَ أمرَ الدِّينِ ورَضِيَهُ فهوَ عندَنا مِمَّنْ صَحِبَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ولوْ سَاعةً منْ نهارٍ. والتقييدُ بالبلوغِ- كما قالَ المُؤَلِّفُ- شَاذٌّ، وهوَ يُخْرِجُ نحوَ محمودِ بنِ الربيعِ الذي عَقَلَ من النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مَجَّةً، وهوَ ابنُ خَمْسِ سنينَ، معَ عَدِّهم إيَّاهُ في الصحابةِ. ولم يُتَعَقَّبْ تَقْيِيدُهُ بالعقلِ، وهوَ كذلكَ في المَجْنُونِ المُطْبَقِ، سَوَاءٌ البالِغُ السَّابِقُ إسلامُهُ دُونَ رؤيتِهِ، أو الصغيرُ المحكومُ بإسلامِهِ تَبَعاً لأبَوَيْهِ؛ ولِذَا زِدْتُهُ، وكانَ عدَمُ التصريحِ بهِ لِفَقْدِهِ. نَعَم، المُتَقَطِّعُ لا مانعَ من اتِّصافِهِ بها إذا رَآهُ في حالِ إفاقتِهِ؛ لإجراءِ الأحكامِ عليهِ حِينَئذٍ، ووصْفِهِ بالعدالةِ إذا لم يُؤَثِّرِ الخَلَلُ في إِفَاقَتِهِ، وبعضُهم كَوْنُهُ مُميِّزاً كما تقدَّمَ. (وقيلَ): إنَّهُ لا يَكْفِي في كونِهِ صَحابِيًّا مُجرَّدُ الرؤيَةِ، بلْ لا يَكُونُ صحابيًّا إلاَّ (إِنْ طَالَتْ) صُحْبَتُهُ للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ معَهُ على طريقِ التَّبَعِ لهُ والأخذِ عنهُ. وبهِ جزَمَ ابنُ الصَّبَّاغِ في (العُدَّةِ) فقالَ: الصحابيُّ هوَ الذي لَقِيَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وأقامَ معَهُ واتَّبَعَهُ دُونَ مَنْ وَفَدَ عليهِ خاصَّةً، وانصَرَفَ منْ غيرِ مُصاحبةٍ ولا مُتابعةٍ. وقالَ أبو الحُسَينِ في (المُعْتَمَدِ): هوَ مَنْ طالَتْ مُجالَسَتُهُ لهُ على طريقِ التَّبَعِ لهُ والأخذِ عنهُ، أمَّا مَنْ طَالَتْ بدُونِ قصدِ الاتِّباعِ أوْ لم تَطُلْ كالوَافِدِينَ فَلا. وقال الكيا الطَّبَرِيُّ: هوَ مَنْ ظَهَرتْ صُحْبَتُهُ لرسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، صُحْبَةُ القَرِينِ قَرِينَهُ حتَّى يُعَدَّ منْ أَحْزَابِهِ وخَدَمِهِ المُتَّصلِينَ بهِ. قالَ صاحبُ (الواضحِ): وهذا قولُ شُيُوخِ المُعتزلةِ. وقالَ ابنُ فُورَكَ: هوَ مَنْ أكْثَرَ مُجالَسَتَهُ واخْتَصَّ بهِ؛ ولذلكَ لم يُعَدَّ الوَافِدُونَ من الصحابةِ، في آخَرِينَ من الأُصولِيِّينَ، بلْ حَكَاهُ أبو المُظَفَّرِ السَّمْعانِيُّ عنهم، وادَّعَى أنَّ اسمَ الصحابيِّ يقَعُ على ذلكَ منْ حيثُ اللغةُ. والظاهرُ أنَّ المُحدِّثِينَ تَوسَّعوا في إطلاقِ اسمِ الصُّحْبَةِ على مَنْ رَآهُ رُؤْيَةً؛ لِشَرَفِ منزلتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، حَيْثُ أعْطَوْا لكلِّ مَنْ رَآهُ حُكْمَ الصُّحْبَةِ؛ ولِهَذَا يُوصَفُ مَنْ أَطَالَ مُجالسةَ أهلِ العلمِ بأنَّهُ منْ أصحابِهِ، أي: المُجَالِسِ. وما حَكاهُ عن الأُصولِيِّينَ إنَّما هوَ طريقةٌ لبعضِهم، وجُمْهُورُهم على الأوَّلِ. وكذا دَعْوَاهُ ذلكَ لُغةً يَرُدُّهُ حِكَايَةُ القاضي أبي بَكْرٍ البَاقِلاَّنِيِّ عنهم بدونِ اختلافٍ، لكنَّهُ قالَ: ومعَ هذا- يعني إيجابَ حُكْمِ اللغةِ- إجراءُ الصُّحْبةِ على مَنْ صَحِبَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ولوْ ساعةً، فَقَدْ تَقرَّرَ للأئمَّةِ عُرْفٌ في أنَّهم لا يَسْتَعْمِلُونَهُ إلاَّ فيمَنْ كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ واتَّصَلَ لِقاؤُهُ، ولا يُجْرُونَ ذلكَ على مَنْ لَقِيَ المرءَ ساعةً، ومَشَى معَهُ خُطاً، وسَمِعَ منهُ حديثاً، فوجَبَ لذلكَ أنْ لا يَجْرِيَ في عُرْفِ الاستعمالِ إلاَّ علَى مَنْ هذا حالُهُ. انتَهَى. وصنيعُ أبي زُرْعةَ الرازيِّ وأبي دَاوُدَ يُشْعِرُ بالمَشْيِ على هذا المذهبِ؛ فإنَّهما قالا في طارقِ بنِ شهابٍ: لهُ رُؤْيَةٌ وليسَتْ لهُ صُحْبَةٌ. وكذا قالَ عاصمٌ الأحولُ في عبدِ اللَّهِ بنِ سَرْجِسَ. بلْ قالَ مُوسَى السَّيَلانِيُّ فيما رَوَاهُ ابنُ سَعْدٍ في (الطَّبقاتِ) بسندٍ جَيِّدٍ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَأَنْتَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ منْ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ؟ فقالَ بِنَاءً على ما في ظَنِّهِ: (قَدْ بَقِيَ قومٌ من الأعرابِ، فَأَمَّا أصحابُهُ فأنَا آخِرُهُم). لكنْ قدْ يُجَابُ بأنَّهُ أرادَ إثباتَ صُحْبةٍ خَاصَّةٍ ليسَتْ لتلكَ الأعرابِ، وهوَ المُطابِقُ للمسألةِ. وكذا إنَّما نفَى أَبُو زُرْعَةَ ومَنْ أُشِيرَ إليهم صُحْبَةً خاصَّةً دُونَ العامَّةِ، وما تَمَسَّكُوا بهِ لهذا المذهبِ مِنْ خِطابِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لخالدِ بنِ الوليدِ في حقِّ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ أوْ غيرِهِ بقولِهِ: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي)، مَرْدُودٌ بأنَّ نَهْيَ الصحابيِّ عنْ سبِّ آخرَ لا يَستلزِمُ أنْ لا يَكُونَ المَنْهِيُّ عن السَّبِّ غيرَ صحابيٍّ، فالمعنَى: لا يَسُبَّ غيرُ أصحابِي أَصْحَابِي، ولا يَسُبَّ بَعْضُهم بَعْضاً. (وَ) على كُلِّ حالٍ، فهذا القولُ (لم يُثَبَّتِ) بضمِّ الياءِ المُثنَّاةِ منْ تحتُ، وتشديدِ الباءِ الموحَّدةِ المفتوحةِ؛ أَيْ: ليسَ هوَ الثَّبَتَ؛ إذ العملُ عندَ المُحدِّثِينَ والأُصولِيِّينَ على الأوَّلِ. ثمَّ إنَّ القائلِينَ بالثاني لم يَضْبُطْ أحدٌ منهم الطُّولَ بِقَدْرٍ مُعيَّنٍ؛ كما صَرَّحَ بهِ الغزاليُّ وغيرُهُ، لَكِنْ حَكَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ عنْ بعضِهم تحديدَهُ بسِتَّةِ أشْهُرٍ. (وقيلَ): إنَّما يَكُونُ صَحابِيًّا (مَنْ أَقَامَ) معَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ (عَاماً) أوْ عاميْنِ، (وغَزَا مَعْهُ) غزوةً أوْ غزوتيْنِ، (وذَا لِـ) سعيدِ (ابنِ المُسيِّبِ) بكَسْرِ الياءِ وفتحِها، وهوَ الأشْهَرُ، والأوَّلُ مذهَبُ أهلِ المدينةِ، وكأنَّهُ لِمَا حُكِيَ عنْ سعيدٍ منْ كراهتِهِ للفَتْحِ. (عَزَا)؛ أي: ابنُ الصلاحِ وأسنَدَهُ أبو حَفْصِ بنُ شاهِينَ، ومنْ طَرِيقِهِ أبو مُوسَى في آخرِ الذيْلِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وكأنَّ المرادَ بهذا إنْ صَحَّ عنهُ رَاجِعٌ إلى المَحْكِيِّ عن الأُصولِيِّينَ، ولكنْ في عِبَارَتِهِ ضِيقٌ يُوجِبُ أنْ لا يُعَدَّ من الصحابةِ جَرِيرُ بنُ عبدِ اللَّهِ البَجَلِيُّ ومَنْ شَارَكَهُ في فَقْدِ ظَاهِرِ ما اشترطَهُ فيهم مِمَّنْ لا نَعْلَمُ خلافاً في عَدِّهِ من الصحابةِ. انتهَى. وهوَ ظاهِرٌ في تَوَقُّفِهِ في صِحَّتِهِ عنْ سعيدٍ، وهوَ كذلكَ، فقدْ أخْرَجَهُ ابنُ سعدٍ عن الواقديِّ، وهوَ ضعيفٌ في الحديثِ، معَ أنَّ لفْظَ روايَةِ ابنِ سَعْدٍ: (أَوْ غَزَا معَهُ غَزْوَةً أوْ غَزْوَتَيْنِ)، بـ (أوْ)، وهوَ أشْبَهُ في ترجيعِهِ إلى المذهبِ الثاني. وحَكَى ابنُ سَعْدٍ عنهُ أيضاً أنَّهُ قالَ: رَأَيْتُ أهْلَ العِلْمِ يقُولُونَ غيرَ ذلكَ، ويَذْكُرونَ جريرَ بنَ عبدِ اللَّهِ وإسلامَهُ قبلَ وفاةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بخمسةِ أشْهُرٍ أوْ نحوِها. انتهَى. وإسلامُ جريرٍ مُخْتَلَفٌ في وَقْتِهِ، فَفِي (المعجمِ الكبيرِ) للطَّبَرانِيِّ منْ حديثِهِ قالَ: (بَعَثَنِي النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في إِثْرِ العُرَنِيِّينَ). وهذا يَدُلُّ على تَقَدُّمِ إسلامِهِ، لَكِنْ فيهِ الرَّبَذِيُّ، وهوَ ضعيفٌ. وفي (المُعْجَمِ الأوسطِ) لهُ منْ حديثِهِ أيضاً قالَ: (لَمَّا بَعَثَنِي النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أَتَيْتُهُ فقالَ لِي: (يَا جَرِيرُ، لأَيِّ شَيْءٍ جِئْتَنَا؟) قُلْتُ: لأُسْلِمَ على يَديْكَ يا رسولَ اللَّهِ. فَأَلْقَى إِلَيَّ كِساءَهُ. الحديثَ. وفي سندِهِ حُصَيْنُ بنُ عُمَرَ الأَحْمَسِيُّ، وهوَ ضعيفٌ أيضاً. ولوْ صَحَّ لكانَ مَتْروكَ الظاهِرِ، ويُحْمَلُ على المَجَازِ؛ أيْ: لَمَّا بَلَغَنا خَبَرُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. أوْ على الحَذْفِ؛ أيْ: لَمَّا بُعِثَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ثمَّ دَعَا إلى اللَّهِ، ثمَّ قَدِمَ المدينةَ، ثمَّ حَارَبَ قريشاً وغيرَهم، ثمَّ فتَحَ مَكَّةَ، ثمَّ وفَدَتْ عليهِ الوُفودُ. فقدْ رَوَى أيضاً في (الكبيرِ) بلفظِ: (فَدَعَانِي إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ)، والزكاةُ إنَّما فُرِضَتْ بالمدينةِ. وعندَهُ أيضاً منْ حديثِ شَرِيكٍ عن الشَّيْبانِيِّ، عن الشَّعْبِيِّ، عنْ جَريرٍ قالَ: قالَ لنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ) الحديثَ. وهذهِ الروايَةُ تَخْدِشُ في جَزْمِ الوَاقِدِيِّ بأنَّهُ وَفَدَ على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في شَهْرِ رمضانَ سَنَةَ عَشْرٍ؛ لأنَّ وَفاةَ النجاشيِّ كانَتْ قبلَ سنةَ عَشْرٍ. وكذا في الصحيحيْنِ عنهُ أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ لهُ في حَجَّةِ الوداعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ). وبهِ يُرَدُّ قَوْلُ ابنِ عبدِ البَرِّ: إنَّهُ أَسْلَمَ قبلَ وفاةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بأربعينَ يوماً؛ لأنَّ حَجَّةَ الوداعِ كانتْ قبلَ الوفاةِ النبويَّةِ بأكثرَ منْ ثمانينَ يَوْماً. واشترَطَ بعضُهم معَ طُولِ الصُّحْبَةِ الأخْذَ، حَكَاهُ الآمِدِيُّ عنْ عمرِو بنِ يَحيَى. والظاهرُ أنَّهُ الجاحِظُ أحدُ الأئمَّةِ المعتزلةِ، الذي قالَ فيهِ ثَعْلَبٌ: إنَّهُ غيرُ ثِقَةٍ ولا مأمونٍ. وتسميتُهُ لأبيهِ بِيَحْيَى تصحيفٌ منْ بَحْرٍ، وعبارتُهُ: ذهَبَ عَمْرُو بنُ يَحْيَى إلى أنَّ هذا الاسمَ إنَّما يُسَمَّى بهِ مَنْ طَالَتْ صُحْبتُهُ للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأخَذَ عنهُ العلمَ. وحكاهُ ابنُ الحاجبِ أيضاً قولاً غيرَ مَعْزُوٍّ لأحدٍ، لكنْ بإبدالِ الأخْذِ بالروايَةِ. وبينَهما فَرْقٌ قالَهُ المُصنِّفُ، قالَ: ولم أَرَ هذا القولَ لغيرِ عَمْرٍو. وكأنَّ ابنَ الحاجبِ أخَذَهُ منْ كلامِ الآمِدِيِّ. وعنْ بعضِهم: هوَ مَنْ رَأَى النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وَاخْتُصَّ بهِ اختصاصَ الصاحبِ، وإنْ لم يَرْوِ عنهُ ولم يَتعَلَّمْ منهُ. قالَهُ القاضي أبو عبدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ من الحنفيَّةِ. وعنْ بعضِهم: هوَ مَنْ ظَهَرَ منهُ معَ الصُّحْبَةِ الاتِّصَافُ بالعدالةِ، فمَنْ لم يَظْهَرْ منهُ ذلكَ لا يُطلَقُ عليهِ اسمُ الصُّحْبَةِ. قالَهُ أبو الحُسَيْنِ بنُ القَطَّانِ كما سيأتي في المسألةِ بعدَها. وقيلَ: هوَ مَنْ أدْرَكَ زَمَنَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مُسلماً وإنْ لم يَرَهُ. وهوَ قولُ يَحْيَى بنِ عُثْمانَ بنِ صالحٍ المصريِّ؛ فإنَّهُ قالَ: ومِمَّن دُفِنَ؛ أيْ: بمِصْرَ، منْ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مِمَّنْ أدْرَكَهُ ولم يَسْمَعْ منهُ: أَبُو تميمٍ الْجَيْشَانِيُّ، واسمُهُ عبدُ اللَّهِ بنُ مَالكٍ. وكذا ذكَرَهُ الدَّوْلابِيُّ في الكُنَى من الصحابةِ، وهوَ إِنَّما قَدِمَ المدينةَ في خلافةِ عُمَرَ باتِّفاقِ أهلِ السِّيَرِ. على أنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمَا لهُ في الصحابةِ لإدراكِهِ؛ لِكَوْنِ أمْرِهِ عندَهما على الاحتمالِ، ولم يَطَّلِعَا على تَأَخُّرِ قُدومِهِ، ولا يَلْزَمُ منْ تصريحِ أَوَّلِهما بأنَّهُ لم يَسْمَعْ أنْ لا يكونَ عندَهُ أنَّهُ رَآهُ. ومِمَّن حَكَى هذا القولَ من الأُصولِيِّينَ القَرَافِيُّ في (شرحِ التَّنْقيحِ). وعليهِ عَمَلُ ابنِ عبدِ البَرِّ في (الاستيعابِ) وابنِ مَنْدَهْ في (الصحابةِ)؛ حيثُ ذكَرَ الصغيرَ المحكومَ بإسلامِهِ تَبَعاً لأحدِ أبوَيْهِ وإنْ لم يَقِفَا لهُ على رُؤيَةٍ، وكأنَّ حُجَّتَهُما تَوَفُّرُ هِمَمِ الصحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم على إِحْضَارِ مَنْ يُولَدُ لهم إلى النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لِيَدْعُوَ لهُ؛ كَمَا سيأتي نَقْلُهُ بعدُ. بلْ صَرَّحَ أَوَّلُهما بأنَّهُ رَامَ بذلكَ استكمالَ القَرْنِ الذي أَشَارَ إليهِ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بقولِهِ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي). ومِمَّا يُنَبَّهُ عليهِ إخراجُ بعضِهم عن الصحابةِ مَنْ هوَ منهم، أوْ إدخالُ مَنْ ليسَ منهم فيهم؛ كما سَيَأْتِي في آخرِ التابعِينَ.
[بم تعرف الصحابة] (وَ) الثانيَةُ: معرفةُ الصُّحْبَةِ. (تُعْرَفُ الصُّحْبَةُ) إِمَّا (باشتهارٍ) قَاصِرٍ عن التواتُرِ، وهوَ الاستفاضةُ على رَأْيٍ بها؛ كعُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، وضِمَامِ بنِ ثَعْلَبَةَ وغيرِهما، (اوْ تَواتُرٍ) بها؛ كأبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ المَعْنِيِّ بقولِهِ تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]، وسائرِ العَشَرَةِ في خَلْقٍ، (أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ) آخَرَ معلومِ الصُّحْبَةِ؛ إمَّا بالتصريحِ بها، كأنْ يَجِيءَ عنهُ أنَّ فُلاناً لهُ صُحْبَةٌ مَثَلاً أوْ نَحْوُهُ؛ كقولِهِ: كُنْتُ أنا وفُلانٌ عندَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، أوْ دَخَلْنا على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، بشَرْطِ أنْ يُعْرَفَ إسلامُ المذكورِ في تلكَ الحالةِ. وكذا تُعرَفُ بقولِ آحادِ ثقاتِ التابعِينَ على الراجحِ كما سيأتي. وإلى ما عَدَا الأخيرَ أشارَ أبو عبدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ من الحنفيَّةِ معَ تمريضِ ثَالثِها، فقالَ: لا يَجوزُ عندَنا الإخبارُ عنْ أحَدٍ بأنَّهُ صحابِيٌّ إلاَّ بعدَ وُقوعِ العلمِ بهِ؛ إمَّا اضطراراً، يعني النَّاشِئَ عن التَّواتُرِ، أو اكتساباً، يعني النظريَّ الناشِئَ عن الشُّهْرَةِ ونحوِها. قالَ: وقيلَ: يَجوزُ أنْ يُخْبِرَ بذلكَ إذا أخبَرَ بهِ الصحابيُّ، يعني كما هوَ الصحيحُ. (ولَوْ قَد ادَّعاهَا)؛ أي: الصُّحْبَةَ بنفسِهِ، (وهْوَ) قبلَ دَعْوَاهُ إيَّاها (عَدْلٌ قُبِلا) قولُهُ؛ يعني: على المُعْتَمَدِ، سَوَاءٌ التصريحُ: كأنَا صَحابِيٌّ، أوْ ما يَقُومُ مَقَامَهُ: كسَمِعْتُ ونَحْوِها؛ لأنَّ وَازِعَ العدلِ يمنَعُهُ من الكذبِ. هكذا أطْلَقَهُ ابنُ الصلاحِ ومَنْ تَبِعَهُ؛ كالنَّووِيِّ، وهوَ مُتَابِعٌ للخطيبِ في (الكفايَةِ)؛ فإنَّهُ قالَ: وقدْ يُحْكَمُ في الظَّاهِرِ بأنَّهُ صحابِيٌّ بقولِهِ: صَحِبْتُ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وكَثُرَ لِقَائِي لهُ، إذا كانْ ثِقَةً أَمِيناً مَقْبولَ القولِ لموضِعِ عَدالتِهِ وقَبُولِ خَبَرِهِ، كما يُعْمَلُ بِرِوَايَتِهِ، وإنْ لم يَقْطَعْ بذلكَ؛ يَعْنِي في الصُّورَتَيْنِ. واشتراطُ العدالةِ قَبْلُ لا بُدَّ منهُ؛ لأنَّ قولَهُ قبلَ أنْ تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ: أنا صَحَابِيٌّ، أوْ ما يَقُومُ مَقَامَ ذلكَ، يَلْزَمُ منْ قولِهِ إثباتُ عدالتِهِ؛ لأنَّ الصحابةَ كُلَّهم عُدُولٌ، فيَصِيرُ بمنزلةِ قَوْلِ القائلِ: أنا عَدْلٌ، وذلكَ لا يُقْبَلُ. ولكنْ في كلامِ القاضي أبي بَكْرِ بنِ الطَّيِّبِ الْبَاقِلاَّنيِّ تَقْيِيدُ ذلكَ أيضاً بما إذا لم يَرِدْ عن الصحابةِ رَدُّ قولِهِ. وفيهِ نَظَرٌ؛ إذ المُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النَّافِي، ولوْ فُرِضَ كونُ النفْيِ لمحصورٍ فَرُبَّما كانَ قادِحاً في العدالةِ. وكذا قَيَّدَهُ هُوَ والآمِدِيُّ بِثُبوتِ مُعَاصَرَتِهِ للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. وعبارةُ الآمِدِيِّ: فَلَوْ قالَ مَنْ عاصَرَهُ: أنا صَحَابِيٌّ، معَ إسلامِهِ وعدالتِهِ فالظاهرُ صِدْقُهُ. ونحوُهُ قولُ أبي بكرٍ الصَّيْرَفِيِّ: إذا عُرِفَتْ عدالتُهُ قُبِلَ منهُ أنَّهُ سَمِعَ من النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَرَآهُ معَ إمكانِ ذلكَ منهُ؛ لأنَّ الذي يَدَّعِيهِ دَعْوَى لا أَمَارَةَ معَها. ولذا قالَ المُصنِّفُ: ولا بُدَّ منْ تقييدِ ما أُطْلِقَ منْ ذلكَ بأنْ يَكُونَ ادِّعاؤُهُ لذلكَ يَقتضِيهِ الظاهرُ، أمَّا لو ادَّعاهُ بعدَ مُضِيِّ مائةِ سنةٍ منْ حينِ وفاتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ فإنَّهُ لا يُقْبَلُ، وإنْ كانتْ قدْ ثَبَتَتْ عدالتُهُ قبلَ ذلكَ؛ لقولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: (أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى أَحَدٌ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ)، يُرِيدُ انْخِرَامَ ذلكَ القَرْنِ. قالَ ذلكَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في سَنَةِ وَفاتِهِ، قالَ: وهوَ وَاضِحٌ جَلِيٌّ. ونحوُهُ قولُ شيخِنا: وأمَّا الشرطُ الثاني، وهوَ المُعاصَرةُ، فَيُعْتَبَرُ بمُضِيِّ مائةِ سَنَةٍ وعشرِ سنينَ منْ هِجْرةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لِقَوْلِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في آخِرِ عُمْرِهِ لأصحابِهِ: (أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؛ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَيهَا أَحَدٌ) رَوَاهُ البُخارِيُّ ومسلمٌ منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ. زادَ مسلمٌ منْ حديثِ جابرٍ أنَّ ذلكَ كانَ قبلَ موتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بشهرٍ، ولفظُهُ: (سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بشهرٍ: (أُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ اليَوْمَ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ). قالَ: ولهذهِ النُّكْتَةِ لم يُصَدِّق الأئمَّةُ أحداً ادَّعَى الصُّحْبَةَ بعدَ الغايَةِ المذكورةِ. وقد ادَّعاها جماعةٌ فَكَذَبوا، وكانَ آخِرَهم رَتَنٌ الهِنْدِيُّ؛ لأنَّ الظاهرَ كَذِبُهم في دَعْوَاهُم. انتهَى. ولا شَكَّ أنَّ دَعْوَى ما لا يُمْكِنُ تَقْدَحُ في العدالةِ، فاشتراطُها يُغْنِي عنْ ذلكَ، وإنْ جعَلَ بعضُ المُتأخِّرِينَ مَحَلَّهُ معَ العدالةِ إذا تُلُقِّيَ بالقَبولِ وحَفَّتْهُ قَرَائِنُ، ولم يَقُمْ دَلِيلٌ على رَدِّهِ. وفي المسألةِ قولانِ آخرانِ: أحَدُهما: أنَّها لا تَثْبُتُ صُحْبَتُهُ بقولِهِ؛ لِمَا في ذلكَ منْ دَعْوَاهُ رُتْبةً يُثْبِتُها لنفسِهِ. وهوَ ظاهرُ كلامِ أبى الحَسَنِ بنِ القَطَّانِ؛ فإنَّهُ قالَ: ومَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا يُقْبَلُ منهُ حتَّى نعلَمَ صُحْبتَهُ، فإذا عَلِمْنَاهَا فما رَوَاهُ فهوَ على السَّمَاعِ حتَّى نعلَمَ غيرَهُ. واقتصارُ ابنُ السَّمْعَانِيِّ حيثُ قالَ: تُعْلَمُ الصُّحْبَةُ إمَّا بطريقٍ قَطْعِيٍّ، وهوَ الخَبَرُ المتواتِرُ، أوْ ظَنِّيٍّ، وهوَ خَبَرُ الثِّقَةِ، قدْ يُشْعِرُ بهِ. وقَوَّاهُ بعضُ المُتأخِّرينَ قالَ: فإنَّ الشَّخْصَ لوْ قالَ: أنا عَدْلٌ، لم يُقْبَلْ؛ لِدَعْوَاهُ لنفسِهِ مَرْتبةً، فكيفَ إذا ادَّعَى الصُّحْبَةَ التي هيَ فوقَ العدالةِ؟! وأَبْدَاهُ ابنُ الحاجِبِ احتمالاً؛ حيثُ قالَ: لوْ قالَ المُعاصِرُ العَدْلُ: أنا صَحَابِيٌّ، احتَمَلَ الخلافَ، يعني قَبْولاً ومَنْعاً، فكأنَّهُ لم يَقِفْ على النقْلِ في الطرفيْنِ. ثَانِيهما: التفصيلُ بينَ مُدَّعِي الصحبةِ اليسيرةِ فَيُقْبَلُ؛ لأنَّهُ مِمَّا يَتعَذَّرُ إِثْبَاتُها بالنقْلِ؛ إذْ رُبَّما لا يَحْضُرُهُ حالةَ اجتماعِهِ بالنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أوْ رُؤْيتِهِ لهُ أحَدٌ. أو الطَّوِيلَةِ وكَثْرَةِ الترَدُّدِ في السفرِ والحَضَرِ، فلا؛ لأنَّ مثلَ ذلكَ يُشاهَدُ ويُنْقَلُ ويَشْتَهِرُ فلا يَثْبُتُ بقَوْلِهِ.
على أنَّ ابنَ عبدِ البَرِّ قدْ جزَمَ بالقبولِ منْ غيرِ شَرْطٍ، بِنَاءً على أنَّ الظاهرَ سَلامتُهُ من الجَرْحِ. وقَوِيَ ذلكَ بتَصَرُّفِ أئمَّةِ الحديثِ في تَخريجِهم أحاديثَ هذا الضَّرْبِ في مسانيدِهم. قالَ شيخُنا: ولا رَيْبَ في انحطاطِ رُتْبةِ مَنْ هذا سبيلُهُ عَمَّنْ مَضَى. قالَ: ومِنْ صُورِ هذا الضربِ أنْ يَقُولَ التابِعِيُّ: أخْبَرَنِي فلانٌ مَثَلاً أنَّهُ سمِعَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ، سَوَاءٌ سَمَّاهُ أمْ لا؛ كَقَوْلِ الزُّهْريِّ فيما رَوَاهُ البخاريُّ في فتحِ مَكَّةَ منْ صحيحِهِ: أخبَرَنِي سُنَيْنٌ أَبُو جَمِيلَةَ، وزعَمَ أنَّهُ أَدْرَكَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وخرَجَ معَهُ عامَ الفتحِ. أمَّا إذا قالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مثلاً عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بكذا، يعنى بالعَنْعَنَةِ، فَثُبُوتُ الصحبةِ بذلكَ بعيدٌ؛ لاحتمالِ الإِرْسَالِ. ويَحْتَمِلُ التفرقةَ بينَ أنْ يَكونَ القائِلُ منْ كبارِ التابعِينَ، فيَترجَّحُ القبولُ، أوْ صِغَارِهم فيَتَرَجَّحُ الرَّدُّ. ومعَ ذلكَ فلم يَتَوَقَّفْ مَنْ صَنَّفَ في الصحابةِ عنْ إخراجِ مَنْ هذا سَبِيلُهُ في كُتُبِهم. نَعَمْ، لوْ أخْبَرَ عنهُ عَدْلٌ من التابعِينَ أوْ تَابِعِيهم أنَّهُ صحابيٌّ، قالَ بعضُ شُرَّاحِ (اللُّمَعِ): لا أعْرِفُ فيهِ نَقْلاً، قالَ: والذي يَقتضِيهِ القياسُ فيهِ أنَّهُ لا يُقْبَلُ ذلكَ، كما لا يُقْبَلُ مَرَاسِيلُهُ؛ لأنَّ تلكَ قضيَّةٌ لم يَحْضُرْها. قالَ شيخُنا: والراجِحُ قبولُهُ؛ بناءً على الراجِحِ منْ قبولِ التزكيَةِ منْ واحدٍ. وكذا مالَ إليهِ الزَّرْكَشِيُّ فقالَ: والظاهِرُ قبولُهُ؛ لأنَّهُ لا يَقولُ ذلكَ إلاَّ بعدَ العلمِ بهِ؛ إمَّا اضْطِرَاراً أو اكْتِسَاباً. وإليهِ يُشِيرُ كلامُ ابنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقِ. إذا عُلِمَ هذا فقدْ أفادَ شيخُنا في مُقدِّمةِ الإصابةِ لهُ ضَابِطاً يُسْتَفَادُ منْ معرفتِهِ جَمْعٌ كثيرٌ يُكتَفَى فيهم بِوَصْفٍ يَتضَمَّنُ أنَّهم صحابةٌ، وهوَ مأخوذٌ منْ ثلاثةِ آثارٍ: أحدُها: أنَّهم كَانُوا لا يُؤَمِّرُونَ في المَغَازِي إلاَّ الصَّحَابَةَ، فَمَنْ تَتَبَّعَ الأخبارَ الواردةَ في الرِّدَّةِ والفتوحِ وجَدَ منْ ذلكَ الكثيرَ. ثانيها: أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عَوْفٍ قالَ: (كانَ لا يُوَلَدُ لأحدٍ مَوْلودٌ إِلاَّ أَتَى بهِ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فدَعَا لَهُ). وهذا أيضاً يُوجَدُ منهُ الكثيرُ. ثالثُها: أنَّهُ لم يَبْقَ بالمدينةِ ولا بمَكَّةَ ولا الطائفِ ولا مَنْ بَيْنَهَا من الأعرابِ إِلاَّ مَنْ أسْلَمَ وشهِدَ حَجَّةَ الوَدَاعِ. فمَنْ كانَ في ذلكَ الوقتِ مَوْجوداً انْدَرَجَ فيهم؛ لِحُصُولِ رُؤْيَتِهم للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وإنْ لم يَرَهُم هوَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
[بيان عدالة الصحابة] والثالثةُ: في بَيَانِ مَرْتَبَتِهم. (وهُمْ) رضِيَ اللَّهُ عنهم باتِّفَاقِ أهْلِ السُّنَّةِ (عُدولٌ) كُلُّهم مُطْلَقاً، كبيرُهم وصغيرُهم، لابَسَ الفتنةَ أمْ لا، وُجوباً لحُسْنِ الظَّنِّ بهم، ونَظَراً إلى ما تَمَهَّدَ لهم من المَآثِرِ من امتثالِ أَوَامِرِهِ بعدَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وفَتْحِهم الأقاليمَ، وتَبْلِيغِهم عنهُ الكتابَ والسُّنَّةَ، وهدايَةِ الناسِ، ومُوَاظَبَتِهم على الصلواتِ والزَّكَواتِ وأنواعِ القُرُباتِ، معَ الشجاعةِ والبراعةِ والكَرَمِ والإيثارِ والأخلاقِ الحَميدةِ التي لم تَكُنْ في أُمَّةٍ من الأُمَمِ المُتقدِّمةِ. قالَ الخَطِيبُ في (الكفايَةِ): عدالةُ الصحابةِ ثابتةٌ معلومةٌ بتعديلِ اللَّهِ لهم، وإخبارِهِ عنْ طهارتِهم، واختيارِهِ لهم. فَمِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]، وقولُهُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة: 143]، وقولُهُ: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح: 18]، وقولُهُ: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة: 100]، وقولُهُ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64]، وقولُهُ: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8] إلى قولِهِ: (إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]. في آياتٍ كثيرةٍ يَطُولُ ذِكْرُها، وأحاديثَ شهيرةٍ يَكْثُرُ تَعْدادُها. وجميعُ ذلكَ يَقْتَضِي القَطْعَ بتعديلِهم، ولا يَحتاجُ أحَدٌ منهم معَ تَعدِيلِ اللَّهِ لهُ إلى تعديلِ أحدٍ من الخَلْقِ.
على أنَّهُ لوْ لَمْ يَرِدْ من اللَّهِ ورسولِهِ فيهم شيءٌ مِمَّا ذَكَرْناهُ، لأَوْجَبَت الحالُ التي كَانُوا عليها مِن الهِجْرَةِ، والجهادِ، ونُصرةِ الإسلامِ، وبَذْلِ المُهَجِ والأموالِ، وقَتْلِ الآباءِ والأبناءِ، والمُناصحةِ في الدِّينِ، وقُوَّةِ الإيمانِ واليقينِ، القَطْعَ على تعديلِهم، والاعتقادَ لنَزَاهَتِهم، وأنَّهم أفْضَلُ مِنْ جميعِ الخالِفِينَ بعدَهم، والمُعَدَّلِينَ الذينَ يَجِيئونَ مِنْ بَعْدِهم. هذا مَذْهَبُ كافَّةِ العلماءِ ومَنْ يُعْتَمَدُ قولُهُ. ثمَّ أُسْنِدَ عنْ أَبِي زُرْعةَ الرازيِّ أنَّهُ قالَ: إذا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أحداً منْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فاعْلَمْ أنَّهُ زِنْدِيقٌ؛ وذلكَ أنَّ الرسولَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حَقٌّ، والقرآنَ حَقٌّ، وما جاءَ بهِ حَقٌّ، وإنَّما أَدَّى إلينا ذلكَ كُلَّهُ الصحابةُ، وهؤلاءِ يُرِيدونَ أنْ يُجَرِّحوا شُهُودَنا؛ لِيُبْطِلُوا الكتابَ والسُّنَّةَ. والجَرْحُ بهم أَوْلَى، وهم زَنادِقَةٌ. انتهى. وهوَ كما قالَ شيخُنا فَصْلٌ حَسَنٌ. فأمَّا الآيَةُ الأُولَى، فالذي رَجَّحَهُ كثيرٌ من المُفسِّرينَ عُمُومُها في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وخَصَّها آخَرُونَ بالصحابةِ. بلَ قالَ بعضُهم: اتَّفَقوا على أنَّها واردةٌ فيهم، وحينَئذٍ فالاستدلالُ منها ظاهِرٌ. وأمَّا الثانيَةُ، فهيَ خِطَابٌ معَ المَوجودِينَ منهم حِينَئذٍ، ولكنْ لا يَمتنِعُ إلحاقُ غيرِهم بهم مِمَّنْ شارَكَهم في الوصْفِ. وكذا من الآياتِ: (وَالَّذِينَ مَعَهُ)، ومنْ غَيْرِها: (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ)، معَ ما تَحَقَّقَ عنهم بالتَّوَاتُرِ من الجِدِّ في الامتثالِ. قالَ شيخُنا: والأحاديثُ الواردةُ في تفضيلِ الصحابةِ كثيرةٌ، فمِنْ أَدَلِّها على المقصودِ ما رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضاً، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبُحِبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ). وذكَرَ غيرُهُ من الأدلَّةِ حديثَ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: (وَلا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) مُتَّفَقٌ عليهِ. وهوَ إنْ ورَدَ على سَبَبٍ، وذلكَ أنَّهُ كانَ بينَ خالدِ بنِ الوليدِ وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ شيءٌ، فَسَبَّهُ خالدٌ، فقالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ... وذكَرَهُ، بِحَيْثُ خَصَّهُ بعضُ أصحابِ الحديثِ بمَنْ طَالَتْ صُحبتُهُ وقاتَلَ معَهُ وأنفَقَ وهاجَرَ، فالعِبرةُ إنَّما هيَ بِعُمُومِ اللفظِ، لا بخُصُوصِ السببِ، كما ذهَبَ إليهِ الأكْثَرُونَ، وصَحَّحَهُ القاضي عِيَاضٌ هنا. ومثلُ هذا يُقالُ، وإنْ كانَ المَقُولُ لهُ صَحابِيًّا؛ للتنبيهِ على إرادةِ حِفْظِ الصُّحْبَةِ عنْ ذلكَ. ووَجْهُ الاستدلالِ بهِ أنَّ الوصْفَ لهم بغيرِ العدالةِ سَبٌّ، لا سِيَّما وقدْ نَهَى صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعضَ مَنْ أدرَكَهُ وصَحِبَهُ عن التعرُّضِ لِمَنْ تَقدَّمَهُ؛ لِشُهُودِ المواقفِ الفاضلةِ، فَيَكُونُ مَنْ بَعْدَهم بالنِّسْبَةِ لجميعِهم منْ بابِ أَوْلَى. وحديثُ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي) المُتَواتِرُ مِمَّا هوَ أيضاً مُتَّفَقٌ عليهِ منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ وعِمرانَ بنِ حُصَينٍ، حتَّى بالَغَ بعضُهم فتَمَسَّكَ بهِ لِعَدَالَةِ التابِعِينَ أيضاً، وأنَّهُ لا يُسْأَلُ عنهم حَتَّى يَقُومَ الجَرْحُ؛ لقولِهِ فيهِ: (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). وهوَ فيهم محمولٌ على الغالبِ. والمُرَادُ بقَرْنِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيهِ الصحابةُ، وإنْ أُطْلِقَ القرنُ على مُدَّةٍ من الزمانِ في تحديدِها أَقْوَالٌ، أَدْنَاهَا عَشَرَةُ أعوامٍ، وَأَعْلاها مِائَةٌ وعِشْرُونَ، وعليهِ يَنْطَبِقُ الواقعُ في كَوْنِ آخرِ الصحابةِ مَوْتاً أَبُو الطُّفيلِ، إن اعْتُبِرَ ذلكَ من البَعْثةِ؛ إذ المُدَّةُ منها القَدْرُ المَذْكُورُ أوْ دُونَهُ أوْ فَوْقَهُ بقليلٍ على الاختلافِ في وفاةِ أَبِي الطُّفَيْلِ، أمَّا إنْ مَشَيْنا على أنَّ القرنَ مائةٌ كما هوَ المشهورُ، بلْ وقَعَ ما يدُلُّ لهُ في حديثٍ لعبدِ اللَّهِ بنِ بُسْرٍ عندَ مُسلمٍ، فيكونُ الاعتبارُ منْ مَوْتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ.
ومن الأدلَّةِ أيضاً ما جاءَ عنْ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عنْ أبيهِ، عنْ جَدِّهِ، عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: (أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أخرَجَهُ أحمدُ والتِّرْمذِيُّ وابنُ مَاجَهْ وغيرُهم. وعنْ سعيدِ بنِ المُسيِّبِ، عن جابرٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الثَّقَلَيْنِ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ). أخْرَجَهُ البَزَّارُ بسَنَدٍ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. وعنْ عبدِ اللَّهِ بنِ هاشمٍ الطُّوسيِّ، حدَّثنا وكيعٌ، سَمِعْتُ سفيانَ يقولُ في قولِهِ تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ للَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) [النمل: 59]، قالَ: هم أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا يَطُولُ إيرادُهُ. وممَّنْ حَكَى الإجماعَ على القولِ بعدالتِهم إمامُ الحرميْنِ، قالَ: ولَعلَّ السَّبَبَ فيهِ أنَّهم نَقَلَةُ الشريعةِ، فلوْ ثبَتَ توَقُّفٌ في رِوايتِهم لانْحَصَرَت الشريعةُ على عَصْرِ الرَّسُولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ولَمَا اسْتَرْسَلَتْ على سَائِرِ الأعصارِ. ونحوُهُ قولُ أبي مُحَمَّدِ بنِ حَزْمٍ: الصحابةُ كُلُّهم منْ أهلِ الجنَّةِ قَطْعاً، قالَ اللَّهُ تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىوالله بما تعملون خبير) [الحديد: 10]، وقالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) [الأنبياء: 101]. قالَ: فثبَتَ أنَّ الجميعَ منْ أهلِ الجَنَّةِ، وأنَّهُ لا يدخُلُ أحدٌ منهم النارَ؛ لأنَّهم المُخاطَبونَ بالآيَةِ السابقةِ. فإنْ قيلَ: التقييدُ بالإِنْفَاقِ والقتالِ يُخْرِجُ مَنْ لم يَتَّصِفْ بذلكَ، وكذلكَ التقييدُ بالإحسانِ في الآيَةِ السابقةِ، وهيَ قولُهُ تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)، يُخرِجُ مَنْ لم يَتَّصِفْ بذلكَ. فالجوابُ أنَّ التقييداتِ المذكورةَ خرَجَتْ مخرجَ الغالبِ، وإلاَّ فالمُرَادُ: مَن اتَّصَفَ بالإنفاقِ والقتالِ بالفعلِ أو القُوَّةِ. ولكنْ قدْ أشارَ إلى الخلافِ الكيا الطَّبَرِيُّ حيثُ قالَ: إنَّ عليهِ كافَّةَ أصحابِنا. وكذا قالَ القاضِي: هوَ قولُ السَّلَفِ وجُمهورِ الخَلَفِ. وحكَى الآمِدِيُّ وابنُ الحَاجِبِ قَوْلاً أنَّهم كغيرِهم في لُزُومِ البحثِ عنْ عَدالتِهم مُطْلَقاً، وهوَ قَضِيَّةُ كلامِ أبي الحُسَينِ بنِ القَطَّانِ قَوْلٌ من الشافعيَّةِ؛ فإنَّهُ قالَ: فَوَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ ولهُ صُحْبَةٌ، والوليدُ شَرِبَ الخَمْرَ. قُلْنَا: مَنْ ظهَرَ منهُ خلافُ العَدالةِ لا يقَعُ عليهِ اسمُ الصُّحْبَةِ، والوليدُ ليسَ بصحابيٍّ، إنَّما أصحابُهُ الذينَ كانُوا على طريقتِهِ. وهذا عَجيبٌ، فالكُلُّ أصحابُهُ باتِّفَاقٍ، وقَتْلُ وَحْشِيٍّ لحمزةَ كانَ قبلَ إسلامِهِ، وأمَّا الوليدُ وغيرُهُ مِمَّن ذُكِرَ بما أَشَارَ إليهِ فقَدْ كَفَّ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مِنْ لَعْنِ بعضِهم بقولِهِ: (لا تَلْعَنْهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلاَّ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). كما كفَّ عُمَرَ عنْ حَاطِبٍ رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قائِلاً لهُ: (إِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ). لا سِيَّما وهم مُخْلِصُونَ في التوبةِ فيما لَعَلَّهُ صَدَرَ منهم، والحُدُودُ كَفَّاراتٌ. بلْ قِيلَ في الوليدِ بخصوصِهِ: إنَّ بعضَ أهلِ الكُوفةِ تَعَصَّبوا عليهِ فَشَهِدوا عليهِ بغيرِ الحَقِّ. وبالجُمْلَةِ، فتَرْكُ الخوضِ في هذا ونحوِهِ مُتَعَيِّنٌ، وقدْ أَسْلَفْتُ في أواخرِ آدابِ المُحدِّثِ شيئاً مِمَّا يُرَغِّبُ في الحثِّ على تَرْكِ ذلكَ. وقولاً آخرَ: إنَّهم عُدْولٌ إلى وقتِ وُقوعِ الفِتَنِ، فأمَّا بعدَ ذلكَ فلا بُدَّ من البَحْثِ عَمَّنْ ليسَ ظاهرَ العدالةِ. وذهَبَت المُعتزلةُ إلى رَدِّ مَنْ قاتَلَ عَلِيًّا. وقيلَ بهِ في الفريقِ الآخَرِ. و(قِيلَ: لا) يُحْكَمُ بعدالةِ (مَنْ دَخَلا) منهم (في فِتْنَةٍ) من الفِتَنِ الواقعةِ منْ حِينِ مَقْتلِ عثمانَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ؛ كالجَمَلِ وصِفِّينَ، من الفَرِيقَيْنِ إلاَّ بعدَ البحثِ عنها. وعنْ بَعْضِهم رَدُّهم، كأنَّهُ مُطْلَقاً. وقيلَ: يُقْبَلُ الداخِلُ فيها إذا انفرَدَ؛ لأنَّ الأصلَ العدالةُ، وشَكَكْنا في ضِدِّها، ولا تُقْبَلُ معَ مُخَالِفِهِ؛ لِتَحَقُّقِ إبطالِ أحَدِهما منْ غيرِ تَعْيِينٍ. وقيلَ: إنَّ القولَ بالعدالةِ يُخَصُّ بِمَن اشْتَهَرَ منهم، ومَنْ عَدَاهُم كسائرِ الناسِ فيهم العُدُولُ وغيرُهم. قالَ المَازِرِيُّ في (شَرْحِ البرهانِ): لَسْنَا نَعْنِي بقَولِنا: الصحابةُ عُدولٌ، كُلَّ مَنْ رَآهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يوماً ما، أوْ زَارَهُ أو اجْتَمَعَ بهِ لغَرَضٍ وانصَرَفَ عنْ قَرِيبٍ، وإِنَّما نَعْنِي بهِ الذينَ لازَمُوهُ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الذي أُنْزِلَ معَهُ، فَأُولَئِكَ كما قالَ اللَّهُ: (هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ولم يُوَافَق المَازِرِيُّ على ذلكَ؛ ولِذَا اعترَضَهُ غيرُ واحدٍ. وقالَ العَلائِيُّ: إنَّهُ قولٌ غريبٌ يُخرِجُ كثيراً من المَشهورِينَ بالصُّحْبَةِ والروايَةِ عن الحُكْمِ بالعدالةِ؛ كَوَائِلِ بنِ حُجْرٍ ومالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ وعثمانَ بنِ أبي العَاصِ، وغيرِهم مِمَّنْ وَفَدَ عليهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ولَمْ يُقِمْ عندَهُ إلاَّ قليلاً وانْصَرَفَ، وكذلكَ مَنْ لا يُعْرَفُ إلاَّ بروايَةِ الحديثِ الواحدِ، أوْ لم يُعْرَفْ مِقْدَارُ إقامتِهِ منْ أَعْرَابِ القبائلِ. قالَ شيخُنا: وقدْ كانَ تعظيمُ الصحابةِ، ولوْ كانَ اجتماعُهم بهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قليلاً، مُقرَّراً عندَ الخلفاءِ الراشدِينَ وغيرِهم، ثمَّ سَاقَ بسَنَدٍ رجالُهُ ثقاتٌ عنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، أنَّهُ كانَ مُتَّكِئاً فذَكَرَ مَنْ عِنْدَهُ عَلِيًّا ومُعاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَنَاوَلَ رجُلٌ مُعاوِيَةَ، فاسْتَوَى جَالِساً ثمَّ قالَ: (كُنَّا نَنْزِلُ رِفَاقاً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فَكُنَّا فِي رُفْقَةٍ فِيهَا أبو بَكْرٍ، فنَزَلْنا على أهلِ أبياتٍ، وفيهم امرأةٌ حُبْلَى، ومَعَنا رجلٌ مِنْ أهلِ الباديَةِ، فقالَ للمرأةِ الحامِلِ: أَيَسُرُّكِ أنْ تَلِدِي غُلاماً؟ قالَتْ: نَعَمْ، فقالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي شَاةً وَلَدْتِ غُلاماً. فَأَعْطَتْهُ، فسَجَعَ لها أَسْجَاعاً ثمَّ عَمَدَ إلى الشاةِ فذَبَحَها وطَبَخَها، وجَلَسْنا نَأْكُلُ مِنها ومعَنا أبو بَكْرٍ، فلَمَّا عَلِمَ بالقِصَّةِ قامَ فتَقَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ أَكَلَ. قالَ: ثمَّ رَأَيْتُ ذلكَ البَدَوِيَّ قدْ أَتَى بهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وقدْ هَجَا الأنصارَ، فقالَ لهم عُمَرُ: لَوْلا أنَّ لهُ صُحْبَةً منْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما أَدْرِي ما نالَ فيها لَكَفَيْتُكُمُوهُ، ولَكِنْ لهُ صُحْبَةٌ. قالَ: فَتَوَقَّفَ عمرُ عنْ مُعاتَبَتِهِ، فَضْلاً عنْ مُعاقَبَتِهِ؛ لكَوْنِهِ عَلِمَ أنَّهُ لَقِيَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. وفي ذلكَ أَبْيَنُ شاهدٍ على أنَّهم كَانُوا يَعْتقدِونَ أنَّ شأْنَ الصُّحْبَةِ لا يَعْدِلُهُ شيءٌ، كما ثبَتَ في حديثِ أبي سعيدٍ الماضي. وقالَ الإمامُ أحمدُ بعدَ ذِكْرِ العَشَرةِ والمهاجِرِينَ والأنصارِ: ثمَّ أَفْضَلُ الناسِ بعدَ هؤلاءِ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ القَرْنُ الذي بُعِثَ فيهم، كُلُّ مَنْ صَحِبَهُ سَنَةً أوْ شَهْراً أوْ يَوْماً أوْ سَاعةً أوْ رَآهُ فهوَ مِنْ أصحابِهِ، لهُ من الصُّحْبَةِ على قَدْرِ ما صَحِبَهُ، وكانتْ سَابِقَتُهُ معَهُ، وسَمِعَ منهُ، ونظَرَ إليهِ نَظْرةً. فَأَدْنَاهُم صُحْبَةً هوَ أفْضَلُ مِن القرنِ الذينَ لم يَرَوْهُ، ولوْ لَقُوا اللَّهَ بجميعِ الأعمالِ كانَ هؤلاءِ الذينَ صَحِبُوا النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ورَأَوْهُ وسَمِعُوا منهُ وآمَنُوا بهِ ولوْ سَاعةً أفْضَلَ بصُحْبَتِهِ من التابعِينَ، ولوْ عَمِلُوا كُلَّ أعمالِ الخيرِ. وبالجُمْلَةِ، فما قالَهُ المَازِرِيُّ مُنْتَقَدٌ، بلْ كُلُّ ما عَدَا المذهبَ الأوَّلَ القائلَ بالتعميمِ باطِلٌ، والأولُ هوَ الصحيحُ، بل الصوابُ المُعتَبَرُ، وعليهِ الجمهورُ كما قالَ الآمِدِيُّ وابنُ الحَاجِبِ؛ يعني مِن السَّلَفِ والخلفِ. زادَ الآمِدِيُّ: وهوَ المُخْتَارُ. وحَكَى ابنُ عبدِ البَرِّ في (الاستيعابِ) إجماعَ أهْلِ الحقِّ من المسلمِينَ، وهم أَهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، عليهِ، سواءٌ مَنْ لم يُلابِس الفِتنَ منهم أوْ لابَسَها؛ إحساناً للظنِّ بهم، وحَمْلاً لهم في ذلكَ على الاجتهادِ، فتلكَ أُمُورٌ مَبْناها عليهِ، وكلُّ مجتهدٍ مُصيبٌ، أو المُصيبُ واحدٌ، والمُخْطِئُ مَعْذُورٌ، بلْ مَأْجُورٌ. قالَ ابنُ الأنباريِّ: وليسَ المرادُ بعدَ التُّهَمِ ثُبُوتَ العِصْمَةِ لهم، واستحالةَ المَعْصِيَةِ منهم، وإنَّما المرادُ قَبُولُ رِوايَتِهم منْ غيرِ تَكَلُّفٍ ببَحْثٍ عنْ أسبابِ العدالةِ وطَلَبِ التزكيَةِ، إلاَّ إنْ ثبَتَ ارتكابُ قادحٍ، ولم يَثْبُتْ ذلكَ وللَّهِ الحمدُ، فنحنُ على استصحابِ ما كَانُوا عليهِ في زمنِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حتَّى يَثْبُتَ خِلافُهُ، ولا التفاتَ إلى ما يَذْكُرُهُ أهلُ السِّيَرِ؛ فإنَّهُ لا يَصِحُّ، وما صَحَّ فَلَهُ تأويلٌ صحيحٌ، وما أحْسَنَ قولَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحِمَهُ اللَّهُ: تِلْكَ دِماءٌ طَهَّرَ اللَّهُ منها سُيُوفَنا، فلا تُخَضِّبْ بها أَلْسِنَتَنَا. ولا عِبْرةَ بِرَدِّ بعضِ الحنفيَّةِ رواياتِ سَيِّدِنا أبي هُريرةَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ، وتَعليلِهم بأنَّهُ ليسَ بفقيهٍ؛ فقدْ عَمِلُوا برأيِهِ في الغَسْلِ ثلاثاً منْ وُلُوغِ الكلبِ وغيرِهِ، ووَلاَّهُ عُمَرُ رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الولاياتِ الجَسِيمَةَ. وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ لهُ كما في مُسْنَدِ الشافعيِّ، وقَدْ سُئِلَ عنْ مَسْأَلَةٍ: (أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؛ فقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ). فَأَفْتَى، ووَافَقَهُ على فُتْياهُ. وقدْ حَكَى ابنُ النجَّارِ في ذيلِهِ عن الشيخِ أبي إسحاقَ أنَّهُ سَمِعَ القاضِيَ أبا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ يقولُ: كُنَّا في حَلْقَةٍ بجامعِ المنصورِ، فجاءَ شَابٌّ خُرَاسَانِيٌّ حَنَفِيٌّ فَطَالَبَ بالدليلِ في مسألةِ المُصَرَّاةِ، فَأَوْرَدَهُ المُدَرِّسُ على أَبِي هُرَيرةَ، فقالَ الشَّابُّ: إنَّهُ غيرُ مَقْبولِ الروايَةِ. قالَ القاضي: فما اسْتَتَمَّ كلامَهُ حتَّى سَقَطَتْ عليهِ حَيَّةٌ عظيمةٌ مِنْ سَقْفِ الجامعِ، فهَرَبَ منها فَتَبِعَتْهُ دونَ غيرِهِ، فقيلَ لهُ: تُبْ، فقالَ: تُبْتُ.
فَغَابَت الحيَّةُ ولم يُرَ لها بعدُ أثَرٌ. ويَتَخَرَّجُ على هذا الأصلِ مسألةٌ، وهيَ أنَّهُ إذا قيلَ في الإسنادِ: عنْ رجُلٍ من الصحابةِ، كانَ حُجَّةً، ولا تَضُرُّ الجهالةُ بتعيينِهِ؛ لِثُبُوتِ عدالتِهم. وخالَفَ ابنُ مَنْدَهْ فقالَ: مِنْ حُكْمِ الصحابيِّ أنَّهُ إذا رَوَى عنهُ تَابِعِيٌّ وإنْ كانَ مشهوراً؛ كالشَّعْبِيِّ وسعيدِ بنِ المُسيِّبِ، نُسِبَ إلى الجهالةِ. فإذا رَوَى عنهُ رَجُلانِ صَارَ مَشْهوراً واحْتُجَّ بهِ. قالَ: وعلَى هذا بَنَى البُخارِيُّ ومسلمٌ صَحِيحَيْهِما إلاَّ أَحْرُفاً تَبَيَّنَ أمْرُها. ويُسَمِّي البيهقيُّ مِثْلَ ذلكَ مُرْسلاً، وهوَ مَرْدودٌ. وقالَ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: المجهولُ من الصحابةِ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ عَمِلَ بهِ السلفُ أوْ سَكَتُوا عنْ رَدِّهِ معَ انتشارِهِ بينَهم. فإنْ لم يَنْتشِرْ، فإنْ وافَقَ القياسَ عُمِلَ، وإلاَّ فلا؛ لأنَّهُ في المرتبةِ دونَ ما إذا لم يَكُنْ فَقِيهاً. قالَ: ويَحتمِلُ أنْ يُقالَ: إنَّ خَبَرَ المشهورِ الذي ليسَ بفَقيهٍ حُجَّةٌ ما لم يُخالِف القياسَ، وخَبَرَ المجهولِ مَرْدُودٌ ما لم يُؤَيِّدْهُ القياسُ؛ لِيَقَعَ الفرقُ بينَ مَنْ ظَهَرَتْ عَدالَتُهُ ومَنْ لم تَظْهَرْ. [المكثرون من الصحابة] الرابعةُ: من المُكْثِرِينَ من الصحابةِ رضِيَ اللَّهُ عنهم روايَةً وإفتاءً. (والمُكْثِرُونَ) منهم روايَةً كما قالَهُ أحمدُ فيما نقَلَهُ ابنُ كثيرٍ وغَيْرُهُ، الَّذِينَ زادَ حَدِيثُهم على أَلْفٍ (سِتَّةُ)، وهم: (أَنَسٌ) هوَ ابنُ مالِكٍ، و(ابنُ عُمَرَ) عبدُ اللَّهِ، وأُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ (الصِّدِّيقَةُ) ابنةُ الصِّدِّيقِ، و(البَحْرُ) عبدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ. وسُمِّيَ بَحْراً؛ لِسَعَةِ عِلْمِهِ وكثرتِهِ، ومِمَّن سَمَّاهُ بذلكَ أبو الشَّعْثاءِ جَابِرُ بنُ زيدٍ أحدُ التابعِينَ مِمَّن أَخَذَ عنهُ، فقالَ في شَيْءٍ: وأبَى ذلكَ البَحْرُ، يُرِيدُ ابنَ عَبَّاسٍ. و(جَابِرٌ) هوَ ابنُ عبدِ اللَّهِ، و(أَبُو هُرَيْرَةِ)، وهوَ بإجماعٍ حَسْبَما حَكَاهُ النَّوويُّ (أَكْثَرُهُمْ) كما قالَهُ سعيدُ بنُ أبي الحَسَنِ وابنُ حنبلٍ، وتَبِعَهما ابنُ الصلاحِ غيرَ مُتعَرِّضٍ لترتيبِ مَنْ عَدَاهُ في الأكثريَّةِ. والذي يدُلُّ لذلكَ ما نُسِبَ لِبَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ مِمَّا أوْدَعَهُ في مُسنَدِهِ خاصَّةً كما أفادَهُ شيخُنا لا مُطْلقاً؛ فإنَّهُ رَوَى لأبي هريرةَ خَمْسةَ آلافٍ وثَلاثَمِائةٍ وأربعةً وسِتِّينَ، ولابنِ عُمَرَ أَلْفَيْنِ وسِتَّمائةٍ وثَلاثِينَ، ولأنسٍ أَلْفَيْنِ ومائتيْنِ وسِتَّةً وثمانِينَ، ولعائشةَ ألفيْنِ ومائتيْنِ وعَشَرَةً، ولابنِ عَبَّاسٍ ألْفاً وسِتَّمائةٍ وسِتِّينَ، ولجابرٍ ألفاً وخَمْسَمائةٍ وأربعينَ. ولهم سَابِعٌ نَبَّهَ عليهِ المُصنِّفُ تَبَعاً لابنِ كثيرٍ، وهوَ أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، فرَوَى لهُ بَقِيٌّ ألفاً ومائةً وسبعينَ، وقدْ نَظَمَهُ البُرْهَانُ الحَلَبِيُّ فقالَ: أبو سَعِيدٍ نِسْبَةً لِخُدْرَةِ *** سابِعُهم أُهْمِلَ في القَصِيدَةِ. وكذا أدرَجَ ابنُ كثيرٍ في المُكثرِينَ ابنَ مسعودٍ وابنَ عَمْرِو بنِ العاصِ، ولم يَبْلُغْ حديثُ واحدٍ منهما عندَ بَقِيٍّ ألْفاً؛ إذْ حديثُ أَوَّلِهما عندَهُ ثَمَانُ مائةٍ وثمانيَةٌ وأربعونَ، وثَانِيهِما سَبْعُمائةٍ. واستثناءُ أبي هُرَيْرَةَ لهُ منْ كَوْنِهِ أكثرَ الصحابةِ حَدِيثاً كما في الصحيحِ لا يَخْدِشُ فيما تَقدَّمَ ولوْ كانَ الاستثناءُ مُتَّصِلاً، فقدْ أُجِيبَ بأنَّ عبدَ اللَّهِ كانَ مُشتغِلاً بالعبادةِ أكثرَ من اشتغالِهِ بالتعليمِ، فقَلَّت الروايَةُ عنهُ، أوْ أنَّ أَكْثَرَ مُقَامِهِ بعدَ فُتُوحِ الأمصارِ كانَ بمِصْرَ أوْ بالطائفِ، ولم تَكُن الرِّحْلَةُ إليهما مِمَّنْ يَطْلُبُ العلمَ كالرِّحْلَةِ إلى المدينةِ. وكانَ أَبُو هريرةَ مُتَصَدِّياً فيها للفَتْوَى والتحديثِ حتَّى مَاتَ؛ أوْ لأنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اختُصَّ بدعوةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بِأَنْ لا يَنْسَى ما يُحَدِّثُهُ بهِ، فانتشَرَتْ رِوَايَتُهُ، إلى غيرِ ذلكَ من الأَجْوِبَةِ.
والمُكْثِرُونَ منهم إفتاءً سَبْعَةٌ: عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عَبَّاسٍ، وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وعَائِشَةُ. قالَ ابنُ حَزْمٍ: يُمْكِنُ أنْ يُجْمَعَ منْ فُتْيَا كلِّ واحدٍ منْ هؤلاءِ مُجلَّدٌ ضَخْمٌ. (والبحْرُ) ابنُ عَبَّاسٍ (في الحقيقةِ أكْثَرُ) الصحابةِ كُلِّهم على الإطلاقِ (فَتْوَى) فيما قالَهُ الإمامُ أحمدُ، بحيثُ كانَ كبارُ الصحابةِ يُحِيلُونَ عليهِ في الفَتْوَى، وكيفَ لا وقَدْ دَعَا لهُ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بقولِهِ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ)، وفي لفظٍ: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)، وفي آخَرَ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ)، وفي آخَرَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَانْشُرْ مِنْهُ)؟! وقالَ ابنُ عمرَ: هوَ أَعْلَمُ مَنْ بقِيَ بما أَنْزَلَ اللَّهُ على مُحَمَّدٍ. وقالَ أبو بَكْرَةَ: قَدِمَ علينا بالبصرةِ وما في العربِ مِثْلُهُ حَشَماً وعِلْماً وبَياناً وجَمَالاً. وقالَ ابنُ مَسْعودٍ: (لَوْ أَدْرَكَ أَسْنَانَنَا ما عَاشَرُهُ مِنَّا أَحَدٌ). وقالَتْ عائشةُ: (هُوَ أعْلَمُ الناسِ بالحَجِّ). ثمَّ إنَّ وصْفَهُ بالبحْرِ ثابتٌ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِهِ، وإنَّما وَصْفُهُ بذلكَ لكثرةِ عِلْمِهِ كما قالَ مُجاهدٌ فيما أخرَجَهُ ابنُ سعدٍ وغيرُهُ. وعندَ ابنِ سعدٍ أيضاً منْ طريقِ ابنِ جُرَيْجٍ عنْ عطاءٍ أنَّهُ كانَ يقولُ: قالَ البَحْرُ، وفَعَلَ البحْرُ، يُرِيدُ ابنَ عَبَّاسٍ. بلْ سَمَّاهُ غيرُ واحدٍ: حَبْرَ الأُمَّةِ، وبعضُهم: حَبْرَ العَرَبِ، وتُرْجُمانَ القرآنِ، ورَبَّانِيَّ الأُمَّةِ. قالَ ابنُ حَزْمٍ: وَيَلِي هؤلاءِ السَّبْعَةِ في الفَتْوَى عشرونَ، وهُم: أبو بَكْرٍ، وعثمانُ، وأبو مُوسَى، ومُعاذٌ، وسعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ، وأبو هُرَيرةَ، وأنَسٌ، وعبدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ، وسَلْمانُ، وجابرٌ، وأبو سَعِيدٍ، وطَلْحَةُ، والزُّبَيرُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، وعِمرانُ بنُ حُصَيْنٍ، وأبو بَكْرَةَ، وعُبادَةُ بنُ الصامتِ، ومُعاوِيَةُ، وابنُ الزُّبَيْرِ، وأُمُّ سَلَمَةَ. قالَ: ويُمْكِنُ أنْ يُجْمَعَ منْ فُتْيَا كلِّ واحدٍ منهم جُزْءٌ صغيرٌ. قالَ: وفي الصحابةِ نحوٌ منْ مائةٍ وعِشْرينَ نَفْساً مُقِلُّونَ في الفُتْيَا جِدًّا، لا تُرْوَى عن الواحدِ منهم إلاَّ المسألةُ والمسألتانِ والثلاثُ؛ كأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وأبِي الدَّرْداءِ وأبي طَلْحَةَ والمِقْدادِ. وسَرَدَ الباقِينَ مِمَّا في بعضِهِ نَظَرٌ، وقالَ: ويُمْكِنُ أنْ يُجْمَعَ منْ فُتْيَا جميعِهم بعدَ البحثِ جزءٌ صغيرٌ. [ذكر العبادلة والآخذون عنهم] والخامسةُ: في بيانِ مَنْ يُطْلَقُ عليهِ العَبَادِلَةُ منهم دُونَ سائرِ مَن اسْمُهُ عبدُ اللَّهِ. (وهْوَ)؛ أي: البحرُ ابنُ عَبَّاسٍ، (وابنُ عُمَرَا) عبدُ اللَّهِ، (وابنُ الزُّبَيْرِ) عبدُ اللَّهِ، (وابنُ عَمْرٍو) بنِ العاصِ؛ عبدُ اللَّهِ، (قَدْ جَرَى عَلَيْهُمُ بالشُّهْرَةِ) المُستفيضةِ (الْعَبادِلَهْ) فيما قالَهُ الإمامُ أحمدُ. وقالَ: (لَيْسَ) مَنْ جرَى عليهِ ذلكَ (ابنَ مسعودٍ) عبدَ اللَّهِ، وإنْ جَعَلَهُ الثَّعْلَبِيُّ في تفسيرِ: (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) منْ تفسيرِهِ خَامِساً لهم. وكذا هوَ في (شَرْحِ الكافيَةِ) لابنِ الحاجبِ؛ لأنَّهُ كما قالَ البيهقيُّ تَقدَّمَ مَوْتُهُ، والآخَرُونَ عَاشُوا حتَّى احْتِيجَ إلى عِلْمِهم، فكَانُوا إذا اجْتَمَعُوا على شيءٍ قِيلَ: هذا قَوْلُ العَبادلةِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: (وَلا مَنْ شَاكَلَهْ) أيضاً؛ أي: ابنَ مسعودٍ في التسميَةِ بعبدِ اللَّهِ، وهم نَحْوُ مائتيْنِ وعشرينَ نَفْساً، أوْ نحوُ ثلاثِ مائةٍ فيما قالَهُ المُصنِّفُ، بَلْ يَزِيدُونَ على ذلكَ بكثيرٍ. ولوْ تَرَتَّبَ على الحَصْرِ فَائِدَةٌ لَحَقَّقْتُهُ.
ووقَعَ كما رَأَيْتُهُ في عَبْدٍ منْ (الصِّحاحِ) للجَوْهريِّ ذِكْرُ ابنِ مسعودٍ بدَلَ ابنِ الزُّبَيْرِ، وذَكَرَ في الأَلِفِ اللَّيِّنَةِ في هَاءٍ منهُ أيضاً ابنَ الزُّبَيرِ معَ ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ مُقتصِراً عليهم. وكذا عَدَّهم الرَّافِعِيُّ في الدِّيَاتِ من (الشرحِ الكبيرِ)، والزَّمَخْشَرِيُّ في (المُفَصَّلِ)، والعَلاءُ عبدُ العزيزِ البخاريُّ شارِحُ الْبَزْدَوِيِّ من الحنفيَّةِ أيضاً ثلاثةً، لكنْ عَيَّنُوهُم بابنِ مسعودٍ وابنِ عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ. زَادَ الأخيرُ منهم أنَّ ذلكَ في التحقيقِ، قالَ: وعندَ المُحدِّثِينَ: ابنُ الزُّبيرِ بدَلَ ابنِ مسعودٍ. وممَّنْ عَدَّ ابنَ مسعودٍ أيضاً أبو الحُسيْنِ بنُ أبي الربيعِ القُرَشِيُّ، حَكَاهُ القاسِمُ التُّجِيبِيُّ في فَوائِدِ رحلتِهِ. ومِن المُتأخِّرِينَ ابنُ هِشامٍ في (التوضيحِ) وفي الحَجِّ من الهدايَةِ للحنفيَّةِ: (قالَ العَبَادِلَةُ وابنُ الزُّبَيْرِ: أَشْهُرُ الحَجِّ؛ شَوَّالٌ...). فَعَطَفَ ابنَ الزُّبيرِ عليهم. والأوَّلُ هوَ المُعْتَمَدُ المشهورُ بينَ المُحدِّثِينَ وغيرِهم. السادسةُ: ولوْ قُدِّمَتْ معَ التي تَلِيها على التي قَبْلَها لكانَ أَنْسَبَ في المَتْبُوعِينَ منهم. (وَهْوَ)؛ أي: ابنُ مَسعودٍ، (وزَيْدٌ) هوَ ابنُ ثابتٍ، (وابنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ) رضِيَ اللَّهُ عنهم (في الفِقْهِ أتْبَاعٌ) وأصحابٌ (يَرَوْنَ) في عَمَلِهم وفُتْيَاهُم (قولَهُمْ) كما صَرَّحَ بهِ ابنُ المَدِينِيِّ حَاصِراً لذلكَ فيهم، وعبارتُهُ: انتَهَى علمُ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من الأحكامِ إلى ثلاثةٍ مِمَّن أُخِذَ عنهم العلمُ، وذَكَرَهُم. فَهُم كَالْمُقلَّدِينَ، وأَتْبَاعُهُم كالمُقلِّدِينَ لهم.
(وَ) السابعةُ: (قَالَ مَسْرُوقُ) ابنُ الأجْدَعِ الهَمْدَانِيُّ الكُوفِيُّ أحدُ أجِلاَّءِ التابعِينَ: (انْتَهى العِلْمُ) الذي كانَ عندَ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ (إلَى سِتَّةِ) أَنْفُسٍ (أصحابٍ) أيضاً للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ (كِبَارٍ نُبَلا زَيْدٍ) هوَ ابنُ ثابتٍ، و(أَبِي الدَّرْدَاءِ) عُوَيْمِرٍ، (مَعْ أُبَيِّ) ابنِ كَعْبٍ، و(عُمَرَ) ابنِ الخَطَّابِ، و(عبدِ اللَّهِ) ابنِ مسعودٍ (مَعْ عَلِيِّ) ابنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللَّهُ عنهم. (ثُمَّ انْتَهَى)؛ أيْ: وصَلَ ما عندَ هؤلاءِ السِّتَّةِ منْ عِلْمٍ (لِذَيْنِ)؛ أيْ: للأَخِيرَيْنِ منهم، وهُما عَلِيٌّ وابنُ مسعودٍ. هكذا رَوَاهُ بعضُهم عنْ مسروقٍ. ولكن (البَعْضُ) مِمَّنْ رَوَاهُ عنهُ أيضاً، هُوَ الشَّعْبِيُّ، (جَعَلْ) أَبَا مُوسَى (الأشْعَرِيَّ عنْ أَبِي الدَّرْدَا) بالقصرِ (بَدَلْ) بالوقْفِ على لُغَةِ ربيعةَ. بلْ وجاءَ كذلكَ عن الشَّعْبِيِّ نفسِهِ، لَكِنْ بلفظِ: كانَ العِلْمُ يُؤْخَذُ عنْ سِتَّةٍ من الصحابةِ، وذكَرَهم، ثمَّ قالَ: وكانَ عُمَرُ وابنُ مسعودٍ وزَيْدٌ يُشْبِهُ عِلْمُ بعضِهم بعضاً، وكانَ يَقْتَبِسُ بعْضُهم منْ بعضٍ، وكانَ عَلِيٌّ والأشعريُّ وأُبَيٌّ يُشْبِهُ عِلْمُ بعضِهم بعضاً، وكانَ يَقتَبِسُ بعضُهم منْ بعضٍ. ولا يَخْدِشُ فيما تقدَّمَ كَوْنُ كلٍّ منْ زيدٍ وأَبِي مُوسَى تَأَخَّرَتْ وفاتُهُ عن ابنِ مَسْعودٍ وعَلِيٍّ؛ لأنَّهُ لا مانِعَ من انتهاءِ عِلْمِ شخصٍ إلى آخَرَ معَ بقاءِ الأوَّلِ. وأيضاً فقدْ قالَ شيخُنا فيما نُقِلَ عنهُ: إِنَّ عَلِيًّا وابنَ مسعودٍ كانَا معَ مَسْرُوقٍ بالكُوفةِ، فانتهاءُ العلمِ إلَيْهِمَا بمعنَى أنَّ عُمْدَةَ أهلِ الكُوفَةِ في مَعْرفةِ عِلْمِ الأربعةِ المَذْكُورِينَ عَلَيْهِمَا. 798- والْعَدُّ لا يَحْصُرُهُمْ فقدْ ظَهَرْ *** سَبعونَ ألْفاً بِتَبُوكَ وَحَضَرْ 799- الْحَجَّ أَرْبَعُونَ ألْفاً وقُبِضْ *** عنْ ذَيْنِ مَعْ أَرْبعِ آلافٍ تَنِضّ 800- وهُمْ طِباقٌ إنْ يُرَدْ تَعْدِيدُ *** قيلَ: اثْنَتَا عَشْرةَ أوْ تَزِيدُ 801- والأفْضَلُ الصِّدِّيقُ ثمَّ عُمَرُ *** وبعدَهُ العُثمانُ وَهْوَ الأكثَرُ 802- أوْ فَعَلِيٌّ قَبْلَهُ خُلْفٌ حُكِي *** قُلْتُ: وقولُ الوَقْفِ جَا عنْ مَالِكِ 803- فالسِّتَّةُ الباقونَ فالْبَدْرِيَّهْ *** فَأُحُدٌ فالبَيْعَةُ الْمَرْضِيَّهْ 804- قالَ: وفَضْلُ السابقينَ قدْ وَرَدْ *** فَقِيلَ: هُمْ، وقِيلَ: بَدْرِيٌّ وقَدْ 805- قيلَ: بلَ اهْلُ القِبْلَتَيْنِ واخْتُلِفْ *** أَيَّهُمُ أسْلَمَ قَبْلُ مِنْ سَلَفْ 806- قيلَ: أَبُو بكْرٍ، وقيلَ: بلْ عَلِي *** وَمُدَّعِي إجماعِهِ لم يُقْبَلِ 807- وقيلَ: زيدٌ، وادَّعَى وِفَاقَا *** بعضٌ عَلَى خَدِيجَةَ اتِّفَاقَا [عدد الصحابة] والثامنةُ: في إحصائِهم. (والعَدُّ) على المُعْتمَدِ (لا يَحْصُرُهُمْ) إجمالاً، فضلاً عنْ تفصيلِهم؛ لِتَفرُّقِهم في البُلْدَانِ والنَّوَاحِي، (فقَدْ) ثبَتَ قولُ كعبِ بنِ مالكٍ في قِصَّةِ تَبُوكَ بخُصُوصِها: والمُسْلِمُونَ كثيرٌ، لا يَجْمَعُهم ديوانٌ حافظٌ. و(ظَهَرْ) يَعْنِي شَهِدَ معَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كما رُوِيَ عنْ أبي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ (سَبْعونَ أَلْفاً بتَبُوكَ) المذكورةِ. قالَ: (وحَضَرْ) معَهُ (الحَجَّ)؛ يعني الذي لم يَحُجَّ بعدَ الهجرةِ غَيْرَهُ، ووَدَّعَ فيهِ الناسَ بالوَصيَّةِ التي أَوْصَاهُم بها أنْ لا يَرْجِعُوا بعدَهُ كُفَّاراً، وأكَّدَ التَّوْدِيعَ بإشهادِ اللَّهِ عليهم بأنَّهم شَهِدُوا أنَّهُ قدْ بلَّغَ ما أُرسِلَ إليهم بهِ؛ ولِذَلِكَ سُمِّيَ حَجَّ الوَدَاعِ، (أَرْبَعُونَ ألفاً). ولِكَثْرَتِهم قالَ جابرٌ في حِكَايَتِهِ صِفَتَها: نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي منْ بَيْنِ يَدَيْهِ منْ رَاكِبٍ ومَاشٍ، وعنْ يَمينِهِ مثلُ ذلكَ، وعنْ يَسارِهِ مثلُ ذلكَ، ومنْ خلفِهِ مثلُ ذلكَ. (وقُبِضْ) صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ (عنْ ذَيْنِ)؛ أي: الفريقيْنِ المذكوريْنِ في تَبُوكَ وحَجَّةِ الوداعِ، وذلكَ مِائَةُ أَلْفٍ وعَشَرةُ آلافٍ، (مَعْ) زيادةِ (أَرْبَعِ آلافٍ) على ذلكَ، (تَنِضّ) بكَسْرِ النونِ وتشديدِ الضادِ المُعْجمَةِ؛ أيْ: يَتَيَسَّرُ حَصْرُها تَشبيهاً بِنَضِّ الدَّرَاهِمِ، وهوَ تَيَسُّرُها، مِمَّن رَوَى عنهُ وسمِعَ منهُ أوْ رَآهُ وسَمِعَ منهُ. قالَ أبو زُرْعَةَ ذلكَ رَدًّا لِمَنْ قالَ لهُ: أَلَيْسَ يُقالُ: حديثُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أربعةُ آلافِ حديثٍ؟ فقالَ: ومَنْ ذا قالَ ذا؟ قَلْقَلَ اللَّهُ أَنْيَابَهُ، هذا قولُ الزَّنادِقةِ، ومَنْ يُحْصِي حديثَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ؟ قُبِضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وذَكَرَهُ. فَقِيلَ لهُ: هؤلاءِ أينَ كَانُوا وأينَ سَمِعُوا منهُ؟ قالَ: أهلُ المدينةِ وأهلُ مَكَّةَ ومَنْ بَيْنَهما من الأعرابِ، ومَنْ شهِدَ معَهُ حَجَّةَ الوداعِ، كُلٌّ رَآهُ وسَمِعَ منهُ بعَرَفَةَ. قالَ ابنُ فتحونَ في ذيلِ (الاستعيابِ) بعدَ إيرادِهِ لهذا: أجابَ بهِ أَبُو زُرْعةَ سؤالَ مَنْ سألَهُ عن الرواةِ خاصَّةً، فكيفَ بغَيْرِهم؟ انتهى. وكذا لم يَدْخُلْ في ذلكَ مَنْ ماتَ في حَياتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في الغزواتِ وغيرِها، على أنَّهُ قدْ جاءَ عنْ أبي زُرْعةَ روايَةٌ أخْرَى أَوْرَدَها أبو مُوسَى المَدينِيُّ في الذيلِ، قالَ: تُوُفِّيَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ومَنْ رَآهُ وسمِعَ منهُ زيادةٌ على مائةِ ألفِ إنسانٍ منْ رجُلٍ أو امرأةٍ، وكُلٌّ قدْ روَى عنهُ سماعاً أوْ رؤيَةً، فَعِلْمُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كثيرٌ. ولكنَّها لا تُنافِي الأُولَى؛ لقولِهِ فيها: زيادةٌ. معَ أنَّها أَقْرَبُ لعَدَمِ التوَرُّطِ فيها بعُهْدَةِ الحَصْرِ. نَعَمْ، روَى الحاكمُ في (الإكليلِ) منْ حديثِ مُعاذٍ قالَ: (خَرَجْنا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إلى غزوةِ تَبُوكَ زيادةً على ثلاثِينَ ألفاً). وبهذهِ العِدَّةِ جَزَمَ ابنُ إسحاقَ. وأوْرَدَهُ الوَاقدِيُّ بإسنادٍ آخَرَ مَوْصولٍ، وزادَ أنَّهُ كانَتْ معَهُ عَشَرَةُ آلافِ فَرَسٍ، فَيُمْكِنُ أنْ يكونَ ذلكَ في ابتداءِ خُرُوجِهم، كما يُشْعِرُ بهِ قولُهُ: خَرَجْنا. وتَكَامَلَت العِدَّةُ بعدَ ذلكَ. ووقَعَ لشيخِنا في الفتحِ هنا سَهْوٌ، حيثُ عَيَّنَ قَوْلَ أبي زُرعةَ في تبوكَ بأربعينَ ألفاً، وجمَعَ بينَهُ وبينَ قولِ مُعاذٍ أكثرَ منْ ثلاثينَ أَلْفاً باحتمالِ جَبْرِ الكَسْرِ، وجاءَ ضَبْطُ مَنْ كانَ بينَ يَدَي النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عامَ الفتحِ بمَكَّةَ بأنَّهم خمسةَ عَشَرَ ألفَ عِنَانٍ، قالَهُ الحاكِمُ، ومنْ طريقِهِ أَبُو مُوسَى في الذيلِ. بَلْ عندَهُ عن ابنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: (وَافَى النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ فتحِ مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلافٍ من الناسِ، ووَافَى حُنَيْناً باثْنَيْ عَشَرَ ألْفاً، وقالَ: (لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً مِنْ قِلَّةٍ). ثمَّ إنَّهُ قدْ جاءَ فِيمَنْ تُوُفِّيَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عنهم خِلافُ ما تَقدَّمَ، فَعَن الشافعيِّ كما في مَناقِبِهِ لِلآبُرِيِّ والسَّاجِيِّ منْ طريقِ ابنِ عبدِ الحكمِ عنهُ، قالَ: (قُبِضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ والْمُسْلِمُونَ سِتُّونَ ألفاً: ثلاثونَ ألفاً بالمدينةِ، وثلاثونَ ألفاً في قبائلِ العربِ وغيرِها). وعنْ أحمدَ فيما رَوَاهُ البيهقيُّ منْ طريقِ إبراهيمَ بنِ عليٍّ الطَّبَرِيِّ عنهُ، قالَ: (قُبِضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقَدْ صلَّى خَلْفَهُ ثلاثونَ ألفَ رَجُلٍ). وكَأَنَّهُ عَنَى بالمدينةِ؛ لِيَلْتَئِمَ معَ ما قَبْلَهُ. وقالَ الغَزاليُّ في البابِ الثالثِ في أعمالِ الباطنِ في التِّلاوةِ منْ رُبْعِ العبادتِ من (الإحياءِ): ماتَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ عشرينَ ألفاً من الصحابةِ. قالَ المُصنِّفُ: لَعَلَّهُ عَنَى بالمدينةِ. وثَبَتَ عن الثوريِّ فيما أَخْرَجَهُ الخَطيبُ بسندِهِ الصحيحِ إليهِ أنَّهُ قالَ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا على عُثْمَانَ فقَدْ أَزْرَى على اثْنَيْ عشرَ ألفاً، ماتَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وهوَ عنهم رَاضٍ. ووَجَّهَ النوويُّ بأنَّ ذلكَ بعدَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ باثْنَيْ عَشَرَ عاماً بعدَ أنْ ماتَ في خلافةِ أبي بكرٍ في الرِّدَّةِ والفتوحِ الكثيرُ مِمَّنْ لم تُضْبَطْ أسماؤُهم، ثمَّ ماتَ في خلافةِ عمرَ في الفُتوحِ وفي الطَّاعُونِ العَامِّ وعَمْوَاسَ وغيرِ ذلكَ مَنْ لا يُحْصَى كثرةً. وسببُ خَفَاءِ أسمائِهم أنَّ أكثرَهم أَعْرَابٌ، وأكثرَهم حَضَرُوا حَجَّةَ الوداعِ. ونقَلَ عياضٌ في (المَدَاركِ) عنْ مالكٍ رحِمَهُ اللَّهُ أنَّهُ قالَ: ماتَ بالمدينةِ من الصحابةِ نحوُ عَشَرةِ آلافِ نَفْسٍ. وقالَ أبو بكرِ بنُ أبي دَاوُدَ فيما رَوَاهُ عن الوليدِ بنِ مسلمٍ: بالشامِ عشَرةُ آلافِ عَيْنٍ رأَتْ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. وقالَ قَتادةُ: نزَلَ الكُوفةَ من الصحابةِ ألفٌ وخمسونَ؛ منهم أربعةٌ وعشرونَ بَدْرِيُّونَ. قالَ: وأُخْبِرْتُ أنَّهُ قَدِمَ حِمْصَ من الصحابةِ خَمْسُمائةِ رجُلٍ. وعنْ بَقِيَّةَ: نزَلَها منْ بَنِي سُلَيْمٍ أربعُمائةٍ. وقالَ الحاكمُ: الرُّواةُ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من الصحابةِ أربعةُ آلافٍ. وتَعقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بأنَّهم لا يَصِلُونَ إلى أَلْفَيْنِ، بلْ هم ألفٌ وخمسُمائةٍ، وأنَّ كِتَابَهُ (التَّجريدَ) لَعَلَّ جَمِيعَ مَنْ فيهِ ثمانيَةُ آلافِ نَفْسٍ، إنْ لم يَزِيدُوا لم يَنْقُصُوا، معَ أنَّ الكثيرَ فيهم مَنْ لا يُعْرَفُ. انتَهَى. وكذا معَ كثرةِ التكريرِ وإيرادِ مَنْ ليسَ هوَ منهم وَهْماً، أوْ مَنْ ليسَ لهُ إلاَّ مُجرَّدُ إدراكٍ ولم يَثْبُتْ لهُ لِقَاءٌ. وَوُجِدَ بِخَطِّهِ أيضاً أنَّ جميعَ مَنْ في أَسَدِ الغابةِ سَبْعَةُ آلافٍ وخَمْسُمائةٍ وأربعةٌ وخَمْسونَ نَفْساً. وحصَرَ ابنُ فتحونَ عددَ مَنْ بـ(الاستعيابِ) في ثلاثةِ آلافٍ وخَمْسِمائةٍ، يعني مِمَّنْ ذُكِرَ فيهِ باسْمٍ أوْ كُنْيَةٍ، أوْ حصَلَ الوَهْمُ فيهِ، وذَكَرَ أنَّهُ اسْتَدْرَكَ عليهِ على شُرُوطِهِ قَرِيباً مِمَّنْ ذَكَرَ. ومن الغريبِ ما أسَنَدَهُ أبو مُوسَى في آخرِ الذَّيْلِ عن ابنِ المَدينِيِّ قالَ: الصحابةُ خَمْسُمائةٍ وثلاثةٌ وسِتُّونَ رَجُلاً. وبالجُمْلَةِ، فقدْ قالَ شيخُنا: إنَّهُ لم يَحْصُلْ لنا جميعاً- أيْ: كُلِّ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحَابَةِ- الوُقوفُ على العُشْرِ منْ أَسَامِيهِم بالنِّسْبَةِ إلى ما مَضَى عنْ أَبِي زُرْعةَ. قُلْتُ: وفوقَ كلِّ ذي علمٍ عليمٌ. وقدْ قالَ أبو مُوسَى: فإذا ثَبَتَ هذا- يعني: قَوْلُ أبي زُرْعَةَ- فكُلٌّ حَكَى على قَدْرِ ما تَتبَّعَهُ ومَبْلَغِ عِلْمِهِ، وأشارَ بذلكَ إلى وَقْتٍ خاصٍّ وحالٍ، فَإِذَنْ لا تَضَادَّ بينَ كلامِهم، واللَّهُ المُستعانُ. [تفضيل الصحابة بعضهم علي بعض] والتاسعةُ: في تَفَاوُتِهم في الفضيلةِ إجمالاً ثمَّ تَفْصيلاً. ولم يَذْكُرْ فيهِ سِوَى الخلفاءِ الأربعةِ، وما ذكَرَ بَعْدَهم إلى آخِرِ المسألةِ. فمِن الأوَّلِ: (وهُمْ) باعتبارِ سَبْقِهم إلى الإسلامِ أو الهجرةِ أوْ شُهُودِ المَشاهدِ الفاضلةِ (طِبَاقٌ إِنْ يُرَدْ تَعْدِيدُ)؛ أيْ: عَدُّها. واختُلِفَ في مقدارِهِ، فَـ(قِيلَ) كما للحاكِمِ في (عُلُومِ الحديثِ): هيَ (اثْنَتَا عَشْرَةَ) طبقةً. فالأُولَى: مَنْ تَقدَّمَ إسلامُهُ بمكَّةَ؛ كالخلفاءِ الأربعةِ. الثانيَةُ: أصحابُ دَارِ النَّدْوَةِ التي خرَجَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إليها بعدَ أنْ أَظْهَرَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ إسلامَهُ، فَبَايَعُوهُ حينَئذٍ فيها. الثالثةُ: المُهَاجِرَةُ إلى الحَبَشةِ. الرابعةُ: مُبَايِعَةُ العَقَبةِ الأولى. الخامسةُ: أصحابُ العقبةِ الثانيَةِ، وأكثرُهم من الأنصارِ. السادسةُ: المُهاجرونَ الذينَ وَصَلُوا إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بِقُبَاءٍ قَبْلَ أنْ يدخُلَ المدينةَ ويَبْنِيَ المسجدَ. السابعةُ: أهلُ بَدْرٍ. الثامنةُ: المُهَاجِرَةُ بينَ بَدْرٍ والحُدَيْبِيَةِ. التاسعةُ: أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ. العاشرةُ: المُهَاجِرَةُ بينَ الحديبيَةِ وفتحِ مَكَّةَ. الحاديَةَ عَشَرَ: مُسْلِمَةُ الفتحِ. الثانيَةَ عَشَرَ: صِبْيانٌ وأطفالٌ رَأَوْا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ الفتحِ وفي حَجَّةِ الوداعِ وغيرِهما، يَعْنِي مَنْ عَقَلَ منهم ومَنْ لم يَعْقِلْ.
وقيلَ كما لابنِ سَعْدٍ في (الطَّبَقاتِ) لهُ: خَمْسٌ. فالأُولَى: البَدْرِيُّونَ. الثانيَةُ: مَنْ أسلَمَ قديماً مِمَّنْ هاجرَ عامَّتُهم إلى الحبشةِ، وشَهِدُوا أُحُداً فَمَا بعدَها. الثالثةُ: مَنْ شَهِدَ الخَنْدَقَ فما بعدَها. والرابعةُ: مُسْلِمَةُ الفتحِ فما بعدَها. الخامسةُ: الصِّبْيانُ والأطفالُ مِمَّن لم يَغْزُ، سَوَاءٌ حفِظَ عنهُ- وهم الأكثرُ- أمْ لا. (أوْ تَزِيدُ) على الاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَضْلاً عَمَّا دُونَها. ومن الثاني: (والأفْضَلُ) منهم مُطْلقاً بإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ أبو بَكْرٍ (الصِّدِّيقُ) خليفةُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، بلْ هوَ أفضلُ الناسِ بعدَ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ؛ لأَدِلَّةٍ يَطولُ ذِكْرُها، منها قولُهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لأبي الدَّرْداءِ وقَدْ رَآهُ يَمْشِي بينَ يَدَيْهِ: (يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ). وقيلَ لهُ: الصِّدِّيقُ؛ لِمُبَادَرَتِهِ إلى تَصْدِيقِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قبلَ الناسِ كُلِّهم، قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَا دَعَوْتُ أَحَداً إِلَى الإِيمَانِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ). واعلَمْ أنَّهُ بمُقْتَضَى ما قَرَّرْناهُ في تعريفِ الصحابيِّ يُلْغَزُ فيُقالُ لنا: صَحابِيٌّ أَفْضَلُ منهُ، وهوَ عِيَسى المَسِيحُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ. وإليهِ أشارَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ بقولِهِ في قصيدتِهِ التي في أَوَاخِرِ القواعدِ.
مَنْ باتِّفاقِ جَمِيعِ الخَلْقِ أفْضَلُ مِنْ *** خيرِ الصِّحابِ أَبِي بَكْرٍ ومِنْ عُمَرْ ومِنْ عَلِيٍّ ومِنْ عُثْمَانَ وهْوَ فَتًى *** مِنْ أُمَّةِ المُصْطَفَى المُخْتَارِ مِنْ مُضَرْ (ثُمَّ) يَلِي أبا بَكْرٍ (عُمَرُ) بنُ الخطَّابِ بإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ أيضاً. ومِمَّنْ حَكَى إجماعَهم على ذلكَ أبو العَبَّاسِ القُرْطُبِيُّ، فقالَ: ولم يَخْتَلِفْ في ذلكَ أحدٌ منْ أئمَّةِ السَّلَفِ ولا الخلَفِ، قالَ: ولا مُبَالاةَ بأقوالِ أهْلِ التَّشَيُّعِ ولا أهلِ البِدَعِ. وأسندَ البيهقيُّ في الاعتقادِ لهُ عن الشافعيِّ أنَّهُ أيضاً قالَ: ما اختَلَفَ أحدٌ من الصحابةِ والتابعِينَ في تفضيلِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وتقديمِهما على جميعِ الصحابةِ. وكذا جاءَ عنْ يَحْيَى بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ أنَّهُ قالَ: مَنْ أَدْرَكْتُ من الصحابةِ والتابعِينَ لم يَخْتَلِفُوا في أبي بكرٍ وعمرَ وفَضْلِهما. وقالَ مالكٌ رحِمَهُ اللَّهُ كما سَيَأْتِي: أَوَفِي ذلكَ شَكٌّ؟! (وبَعْدَهُ)؛ أيْ: بعدَ عُمَرَ، إمَّا (العُثْمَانُ) بنُ عَفَّانَ، (وَهْوَ الأكثرُ)؛ أيْ: قَوْلُ الأكثرِ منْ أهلِ السُّنَّةِ، كما حَكَاهُ الخَطَّابيُّ وغَيْرُهُ، وأنَّ تَرْتِيبَهُم في الأفضليَّةِ كتَرْتِيبِهم في الخلافةِ. (أَوْ فَعَلِيٌّ) هوَ ابنُ أَبِي طالبٍ (قَبْلَهُ)؛ أيْ: قبلَ عُثْمانَ وبعدَ عُمَرَ، (خُلْفٌ)؛ أيْ: خِلافٌ (حُكِي). وإلى القولِ بتقديمِ عَلِيٍّ ذهَبَ أهلُ الكُوفةِ وجَمْعٌ، كما قالَهُ الخَطَّابِيُّ وابنُ خُزَيْمَةَ وطائفةٌ قبلَهُ وبعدَهُ، كما نقَلَهُ شيخُنا. وروَى الخَطَّابِيُّ عن الثوريِّ حكايتَهُ عنْ أهلِ السُّنَّةِ منْ أَهْلِ الكوفةِ، وأنَّ أهلَ السُّنَّةِ من أهْلِ البَصْرةِ على الأوَّلِ، فَقِيلَ للثَّوْرِيِّ: فما تَقولُ أنتَ؟ قالَ: أنا رجُلٌ كُوفِيٌّ. ثمَّ قالَ الخَطَّابِيُّ: لكنْ قدْ ثبَتَ عن الثوريِّ في آخِرِ قَوْلَيْهِ تقديمُ عُثْمانَ. زادَ غَيرُهُ: ونُقِلَ مِثْلُهُ عنْ صاحبِهِ وَكِيعٍ. قال ابنُ كَثِيرٍ: وهوَ- أَيْ: هذا المذهَبُ- ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وإنْ نَصَرَهُ ابنُ خُزَيمةَ والخطَّابِيُّ. وقدْ قالَ الدَّارقُطْنِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا على عُثْمانَ فقَدْ أَزْرَى بالمهاجرِينَ والأنصارِ. وسَبَقهُ إليهِ الثوريُّ كما حَكَيْتُهُ في الثامنةِ في إحصائِهم. وصَدَقَ- رحِمَهُ اللَّهُ- وأكْرَمَ مَثْواهُ؛ فإنَّ عُمْرَ لَمَّا جعَلَ الأمرَ مِنْ بعدِهِ شُورَى بينَ سِتَّةٍ انحصَرَ في عُثْمَانَ وعَلِيٍّ، فاجتهَدَ فيهما عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ ثلاثةَ أيَّامٍ بلَيَالِيهَا، حتَّى سأَلَ النِّسَاءَ في خُدُورِهِنَّ والصبيانَ في المكاتبِ، فلم يَرَهُم يَعْدِلونَ بعثمانَ أحَداً، فقَدَّمَهُ على عَلِيٍّ، ووَلاَّهُ الأمرَ قبلَهُ. وعن ابنِ عُمَرَ قالَ: (كُنَّا في زمانِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا نَعْدِلُ بأبي بَكْرٍ أحداً، ثمَّ عُمَرَ ثمَّ عُثْمَانَ، ثمَّ نَتْرُكُ أصحابَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا نُفاضِلُ بينَهم). وفي لفظٍ للتِّرْمِذِيِّ، وقالَ: إنَّهُ صحيحٌ غريبٌ: (كُنَّا نَقولُ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حَيٌّ: أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ). وفي آخَرَ عندَ الطَّبَرانِيِّ وغَيْرِهِ مِمَّا هوَ أَصْرَحُ معَ ما فيهِ من اطِّلاعِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (كُنَّا نقولُ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حَيٌّ: أَفْضَلُ هذهِ الأُمَّةِ بعدَ نَبِيِّها أبو بكرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ، فيَسْمَعُ ذلكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فلا يُنْكِرُهُ). قالَ الخَطَّابيُّ: وَجْهُ ذلكَ أنَّهُ أرادَ بهِ الشيوخَ وذَوِي الأسنانِ منهم، الذينَ كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا حَرَّكَهُ أَمْرٌ شَاوَرَهم فيهِ، وكانَ عَلِيٌّ في زمانِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حَدَثَ السِّنِّ. ولم يُرِد ابنُ عمرَ الإِزْرَاءَ بِعَلِيٍّ ولا تَأَخُّرَهُ ودَفْعَهُ عن الفضيلةِ بعدَ عُثْمانَ، ففَضْلُهُ مشهورٌ لا يُنكِرُهُ ابنُ عُمَرَ ولا غيرُهُ من الصحابةِ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في تقديمِ عثمانَ عليهِ. انتهَى. وإلى القَوْلِ بِتَفْضِيلِ عُثْمانَ ذَهَبَ الشافعيُّ وأحمدُ، كما رَوَاهُ البيهقيُّ في اعتقادِهِ عَنْهُمَا، وحَكَاهُ الشافعيُّ عنْ إجماعِ الصحابةِ والتابعِينَ، وهوَ المشهورُ عنْ مالكٍ والثوريِّ وكافَّةِ أئمَّةِ الحديثِ والفِقْهِ وكثيرٍ من المُتكلِّمِينَ كما قالَ القاضي عِياضٌ. وإليهِ ذَهَبَ أَبُو الحسنِ الأشعريُّ والقاضي أبو بَكْرٍ البَاقِلاَّنِيُّ، ولكنَّهما اخْتَلَفا في التفضيلِ، أَهُوَ قَطعِيٌّ أوْ ظَنِّيٌّ؟ فالَّذِي مالَ إليهِ الأشعريُّ أنَّهُ قَطْعيٌّ، وعليهِ يدُلُّ قولُ مالِكٍ الآتي نَقْلُهُ من (المُدَوَّنةِ). والذي مالَ إليهِ البَاقِلاَّنيُّ واختارَهُ إمامُ الحَرَمَيْنِ في (الإرشادِ) الثَّانِي، وعبارتُهُ: لم يَقُمْ عندَنا دَلِيلٌ قاطعٌ على تفضيلِ بعضِ الأئمَّةِ على بعضٍ؛ إذ العقلُ لا يَشْهَدُ على ذلكَ، والأخبارُ الواردةُ في فضائلِهم مُتَعَارِضَةٌ، ولا يُمْكِنُ تَلَقِّي التَّفْضِيلِ مِنْ مَنْعِ إِمَامَةِ المفضولِ. ولكنَّ الغالبَ على الظنِّ أنَّ أبا بَكْرٍ أفضلُ الخلائقِ بعدَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ثمَّ عُمَرُ أَفْضَلُهم بعدَهُ، وتتعارَضُ الظُّنونُ في عُثْمانَ وعليٍّ. وبكونِهِ ظَنِّيًّا جزَمَ صاحبُ (المُفْهِمِ). (قُلْتُ: وقَوْلُ الوَقْفِ) عنْ تَفْضِيلِ أحَدِهما على الآخَرِ (جَا) بالقصرِ (عنْ مَالِكِ) حَسْبَما عَزَاهُ المَازِرِيُّ لِنَصِّ (الْمُدوَّنَةِ)، يَعْنِي في آخِرِ الدِّياتِ منها، وأنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الناسِ أفضلُ بعدَ نَبِيِّهم؟ فقالَ: أبو بَكْرٍ. زادَ عياضٌ فيما عزَاهُ إليها: ثمَّ عُمَرُ. ثمَّ قالَ فيما اتَّفَقا عليهِ: أَوَفِي ذلكَ شَكٌّ؟ قيلَ لهُ: فَعَلِيٌّ وعُثْمَانُ؟ قالَ: ما أدْرَكْتُ أحداً مِمَّنْ أَقْتَدِي بهِ يُفَضِّلُ أحَدَهما على صاحبِهِ، ونَرَى الكَفَّ عنْ ذلكَ. وتَبِعَهُ جماعةٌ؛ منهم يَحْيَى القَطَّانُ، ومن المُتأخِّرِينَ ابنُ حَزْمٍ. وقَوْلُ إمامِ الحرميْنِ الماضي: وتتعارضُ الظُّنُونُ في عثمانَ وعليٍّ، يَمِيلُ أيضاً إلى التوَقُّفِ. لكنْ قدْ حَكَى عِيَاضٌ أيضاً قولاً عنْ مالكٍ بالرجوعِ عن الوقْفِ إلى تفضيلِ عثمانَ. قالَ القُرْطبيُّ: وهوَ الأصَحُّ إنْ شاءَ اللَّهُ. قالَ عِياضٌ: ويَحتمِلُ أنْ يكونَ كَفُّهُ وكَفُّ مَن اقْتَدَى بهِ لِمَا كَانَ شَجَرَ في ذلكَ من الاختلافِ والتعَصُّبِ. بلْ حَكَى المَازِرِيُّ قولاً بالإمساكِ عن التفضيلِ مُطْلقاً، وعَزَاهُ الخَطَّابِيُّ لقَوْمٍ، وحَكَى هوَ قَوْلاً آخَرَ بتقديمِ أبي بَكْرٍ منْ جِهةِ الصحابةِ، وعَلِيٍّ منْ جِهَةِ القَرَابَةِ، قالَ: وكانَ بَعْضُ مَشايخِنا يقولُ: أَبُو بَكْرٍ خَيْرٌ، وعَلِيٌّ أَفْضَلُ. قالَ المُصنِّفُ: وهذا تَهَافُتٌ في القولِ. ووَجَّهَهُ بَعْضُهُم فقالَ: يُمْكِنُ حَمْلُ الأفضليَّةِ على العِلْمِ، فلا تَهَافُتَ، خُصوصاً وقدْ مَشَى عليهِ المُؤلِّفُ، لَكِنْ في التابعِينَ كما سَيَأْتِي، حَيْثُ وجَّهَ قولَ أحمدَ بتفضيلِ ابنِ المُسَيِّبِ معَ النَّصِّ في أُوَيْسٍ بقولِهِ: فلَعلَّهُ أرادَ بالأفضليَّةِ في العلمِ، لا الخَيْرِيَّةِ، كما سَلَكَهُ بعضُ شُيوخِ الخطَّابيِّ. انتهَى. وبَقيَّةُ كلامِ الخَطَّابِيِّ: وبابُ الخيريَّةِ غيرُ بابِ الفَضيلةِ، قالَ: وهذا كما تَقُولُ: إِنَّ الحُرَّ الهاشِمِيَّ أفضلُ من العبدِ الرُّوميِّ أو الحَبَشِيِّ، وقدْ يَكُونَ العبدُ الحبشيُّ خَيْراً منْ هَاشِمِيٍّ في معنَى الطاعةِ والمَنْفعةِ للناسِ، فبابُ الخَيريَّةِ مُتَعَدٍّ، وبابُ الفَضيلةِ لازمٌ، ونحوُهُ مَنْ كانَ يُقَدِّمُ عَلِيًّا لفضيلتِهِ وفَضْلِ أَهْلِ بيتِهِ، معَ اعترافِهِ بفَضْلِ الشَّيْخَيْنِ؛ كأبي بَكْرِ بنِ عَيَّاشٍ؛ فإنَّهُ قالَ: لوْ أَتَانِي أبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعَلِيٌّ لبَدَأْتُ بحاجةِ عَلِيٍّ قَبْلَهما؛ لقَرابتِهِ منْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ولأَنْ أَخِرَّ من السماءِ إلى الأرضِ أَحَبُّ إِلَيَّ منْ أَنْ أُقَدِّمَهُ علَيْهِما. وكما حُكِيَ عنْ أبي الطُّفَيلِ عامرِ بنِ وَاثِلَةَ؛ ولِذَا قالَ ابنُ عَدِيٍّ: كانَت الخَوَارِجُ يَرْمُونَهُ باتِّصالِهِ بِعَلِيٍّ وقولِهِ بفَضْلِهِ وفضلِ أهلِ بيَتْهِ. وكذا قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: إنَّهُ كانَ يعترِفُ بفضلِ أبي بَكْرٍ وعمرَ، لكنَّهُ يُقَدِّمُ عَلِيًّا. وقدْ قالَ السِّرَاجُ: ثَنَا خُشَيْشٌ الصُّوفِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بنُ الحُبَابِ قالَ: كانَ رأْيُ سُفْيَانَ الثوريِّ رَأْيَ أصحابِهِ الكُوفِيِّينَ، يُفَضِّلُ عَلِيًّا على أبي بكرٍ وعُمَرَ، فلَمَّا صارَ إلى البَصْرَةِ رَجَعَ وهوَ يُفَضِّلُ عُمَرَ على عَلِيٍّ، ويُفَضِّلُهُ على عثمانَ. أخْرَجَهُ أبو نُعيمٍ في ترجمةِ الثوريِّ منْ (الحِلْيَةِ). وكذا حكَى المَازِرِيُّ عن الشيعةِ تفضيلَهُ، وعن الخطَّابيَّةِ تفضيلَ عُمَرَ، وعن الرَّاوندِيَّةِ تَفْضِيلَ العَبَّاسِ، والقاضي عِيَاضٍ أنَّ ابنَ عبدِ البرِّ وطائفةً ذَهَبُوا إلى أنْ مَنْ تُوفِّيَ من الصحابةِ في حياةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أفضلُ مِمَّنْ بَقِيَ بعدَهُ؛ لقولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في بعضِهم: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاءِ)، وعَيَّنَ بَعْضَهم؛ منهم جَعْفَرُ بنُ أبي طَالِبٍ. وكلٌّ هذا مردودٌ بما تَقدَّمَ منْ حكايَةِ إجماعِ الصحابةِ والتابعِينَ على أفضليَّةِ أبي بكرٍ وعمرَ على سائرِ الصحابةِ، ثمَّ عُثمانَ ثمَّ عَلِيٍّ، وهوَ المذكورُ في المَجامعِ والمَشاهَدِ وعلى المنابرِ. وَلِبَعْضِهم: أَبُو بَكْرٍ عَلَى السُّنَّهْ *** وَفَارُوقٌ فَتَى الْجَنَّهْ وَعُثْمانُ بِهِ المِنَّهْ *** عَلِيٌّ حُبُّهُ جُنَّهْ. ولذا قالَ شيخُنا عَقِبَ القولِ بتفضيلِ عُمَرَ تَمسُّكاً بالحديثِ في المَنَامِ الذي فيهِ في حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وفي نَزْعِهِ ضَعْفٌ ما نَصُّهُ: وهوَ تَمَسُّكٌ وَاهٍ. وَعَقَّبَ القولَ بتفضيلِ العبَّاسِ أنَّهُ مَرْغوبٌ عنهُ، ليسَ قَائِلُهُ منْ أهْلِ السُّنَّةِ، بلْ ولا منْ أَهْلِ الإيمانِ. وقالَ النَّوَوِيُّ عَقِبَ آخرِها: وهذا الإطلاقُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ولا مقبولٍ. وقدْ رَوَى البيهقيُّ في (الدلائلِ) وغَيْرِهِ منْ طريقِ ابنِ سِيرينَ قالَ: ذَكَرَ رِجَالٌ على عَهْدِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عُمَرَ، فَكَأَنَّهم فَضَّلُوهُ على أبي بَكْرٍ، فبَلَغَ ذلكَ عُمَرَ، يعني بَعْدَ موتِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: واللَّهِ وَدِدْتُ لوْ أنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يوماً وَاحداً منْ أَيَّامِهِ وليلةً وَاحِدةً منْ لَيَالِيهِ، أَمَّا لَيْلَتُهُ فَذَكَرَ قِصَّةَ الغَارِ، وأمَّا يَوْمُهُ فَذَكَرَ الرِّدَّةَ. وثبَتَ عنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، كما في البخاريِّ وغيرِهِ، أنَّهُ قالَ: خَيْرُ الناسِ بعدَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أبو بكرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثمَّ رَجُلٌ آخَرُ. فقالَ لهُ ابْنُهُ مُحَمَّدُ ابنُ الحَنفيَّةِ: ثمَّ أنتَ يا أَبَتِ؟ فقالَ: ما أنا إِلاَّ رَجُلٌ مِن المُسلمِينَ. ولأجْلِ هذا قالَ أبو الأَزْهَرِ: سمِعْتُ عبدَ الرزَّاقِ يقولُ: أُفَضِّلُ الشَّيْخَيْنِ بتفضيلِ عَلِيٍّ إيَّاهما على نفسِهِ، ولوْ لم يُفَضِّلْهما ما فَضَّلْتُهما، كَفَى بِي إِزْرَاءً أنْ أُحِبَّ عَلِيًّا ثمَّ أُخالِفَ قولَهُ. ولا يَخْدِشُ في ذلكَ ما أخْرَجَهُ الترمذيُّ، وقالَ: إنَّهُ حَسَنٌ صحيحٌ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وغيرُهُ منْ حديثِ أبي قِلابةَ عنْ أنسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيٌّ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ). وكذا ما أَخْرَجَهُ الترمذيُّ أيضاً والنَّسائيُّ وابنُ مَاجَهْ وغَيْرُهم منْ حديثِ حُبْشِيِّ بنِ جُنادَةَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ مَرْفُوعاً: (عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، لا يُؤَدِّي عَنِّي إِلاَّ أَنَا أَوْ عَلِيٌّ). وأخْرَجَهُ الترمذيُّ وغيرُهُ منْ حديثِ عَلِيٍّ، أَنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: (أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا). فَمَا انفرَدَ بهِ الصِّدِّيقُ أعْلَى وأغْلَى وأشمَلُ وأكمَلُ، ذلكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يشاءُ. وقدْ قالَ بكرُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُزَنِيُّ حَسْبَما أوْرَدَهُ الحكيمُ الترمذيُّ في (نَوَادِرِ الأُصُولِ) لهُ عنهُ، بلْ أوْرَدَهُ الغزاليُّ في العلمِ من (الإِحْيَاءِ) مرفوعاً: (مَا فَضَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ بِكَثْرَةِ صَلاةٍ وَلا بِكَثْرَةِ صِيَامٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ). واعْلَمْ أنَّهُ قدْ أَفْرَدَ مَناقِبَ أبي بَكْرٍ وعمرَ أبو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وأَسَدُ بنُ مُوسَى، ومن المُتأخِّرينَ المُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَمَناقِبَ أبي بَكْرٍ وحْدَهُ أبو طَالِبٍ العُشَاريُّ وابنُ كَثِيرٍ، وَهِيَ في مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ منْ تاريخِ ابنِ عساكِرَ. ولأبي بكرٍ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيِّ جزءٌ فيهِ سَوَابِقُ الصِّدِّيقِ وفَضَائِلُهُ، وما خَصَّهُ اللَّهُ بهِ دُونَ سائرِ المسلمينَ. وعَمَرَ وَحْدَهُ أبو عُمَرَ عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ ذِي زيلٍ الدِّمَشْقيُّ الحَنبليُّ، وابنُ الجَوزيِّ. ومناقِبَ عُثْمَانَ ابنُ حَبيبٍ. ومَناقِبَ عَلِيٍّ النَّسائيُّ في (الخصائصِ). ومَنَاقِبَ الخلفاءِ الأربعةِ ابنُ زَنْجُويَهْ وأبو نُعَيْمٍ، في الآخَرِينَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ. وفضائِلَ العَشَرَةِ المُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وفَضائِلَ الصحابةِ مُطْلقاً أسَدُ بنُ مُوسَى، وبكرٌ القاضي، وأبو سعيدِ بنُ الأعرابيِّ، وأبو المُطَرِّفِ عبدُ الرحمنِ بنُ فُطَيْسٍ قاضي قُرْطُبَةَ، وهوَ في مائتيْنِ وخمسينَ جُزْءاً حَدِيثيَّةً. وهذا بابٌ لا انتهاءَ لهُ. (فَـ) يَلِي الخلفاءَ الأربعةَ (السِّتَّةُ البَاقُونَ) من العَشَرةِ الذينَ بَشَّرَهم النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بالجَنَّةِ، وهم: طَلْحَةُ، والزُّبَيْرُ، وسَعْدٌ، وسَعِيدٌ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، وأَبُو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ رضِيَ اللَّهُ عنهم أجْمعِينَ. وقدْ نَظَمَهم شيخُنا معَ الأربعةِ في بَيْتٍ مُفْرَدٍ لم يُسْبَقْ إليهِ، فقالَ فيما أَنْشَدَنِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ: لَقَدْ بَشَّرَ الهَادِي مِن الصَّحْبِ زُمْرَةً *** بِجَنَّاتِ عَدْنٍ كُلُّـهم فَضْـلُهُ اشْتَهَرْ سَعِيدٌ، زُبَيْرٌ، سَعْدٌ، طَلْحَةٌ، عَامِرُ *** أبو بَكْرٍ، عُثْمَانُ، ابنُ عَوْفٍ، عَلِيٌّ، عُمَرْ ولغيرِهِ مِمَّنْ تَقدَّمَ: خِيـارُ عِبادِ اللَّهِ بعدَ نَبِيِّهِمْ *** هُمُ العَشْرُ طُرًّا بُشِّرُوا بجِنَانِ زُبَيْرٌ، وطَلْحٌ، وابنُ عَوْفٍ، وعَامِرٌ *** وسَعْدانِ والصِّهْرَانِ والخَتَنَانِ قالَ الإمامُ أبو منصورٍ عَبْدُ القاهرِ التَّميميُّ البغْداديُّ: أصحابُنا مُجْمِعُونَ على أنَّ أَفْضَلَهم الخلفاءُ الأربعةُ، ثمَّ السِّتَّةُ البَاقُونَ إلى تَمامِ العَشَرةِ. (فَـ) يَلِيهم الطائفةُ (البَدْرِيَّهْ) أي: الذينَ شَهِدُوا بَدْراً، وهم ثَلاثُمائةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ، فالمُهاجِرونَ نَيِّفٌ على سِتِّينَ، والأنصارُ نَيِّفٌ وأربعونَ ومائتانِ؛ فقدْ قالَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لِعُمَرَ في بعضِ مَنْ شَهِدَها: (أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ؛ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)، فَدَمَعَتْ عَيْنُ عُمَرَ. قالَ العُلماءُ: والتَّرَجِّي في كلامِ اللَّهِ وكَلامِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ للوُقُوعِ. وَيَتَأَيَّدُ بِوُقوعِهِ بالجَزْمِ في بعضِ الرواياتِ أنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقالَ..... وذكَرَهُ. وفي حديثٍ آخرَ: (لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْراً). (فَـ) يَلِيهم (أُحُدٌ)؛ أيْ: أهلُ أُحُدٍ الذينَ شَهِدُوها. وكَانُوا فيما قالَهُ عُرْوةُ حِينَ خُروجِهم أَلْفاً، فَرَجَعَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ بِثَلاثِمِائةٍ، وبَقِيَ معَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ سَبْعُمائةٍ، اسْتُشهِدَ منهم الكثيرُ. (فَـ) يَلِيهم (الْبَيْعَةُ المَرْضِيَّهْ)؛ أيْ: أهلُ بيعةِ الرِّضوانِ بالحُدَيبيَةِ التي نزَلَ فيها: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الآيَةَ [الفتح ك 18]. وقدْ قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ في أَوَاخِرِ خُطْبَةِ الاستعيابِ: وليسَ في غَزَوَاتِهِ ما يَعْدِلُ بها- يَعْنِي بَدْراً- في الفَضْلِ ويَقْرُبُ منها إلاَّ غَزْوَةُ الحُدَيبيَةِ، حَيْثُ كانتْ بيعةُ الرِّضْوَانِ، وكَانُوا ألفاً وأَرْبعَمائةٍ على المُعتمَدِ، وقالَ لَهُم النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ). (قَالَ) ابنُ الصَّلاحِ: (وَفَضْلُ السَّابِقِينَ) الأوَّلِينَ مِن المُهاجِرِينَ والأنصارِ (قَدْ وَرَدْ) في القرآنِ إِيماءً لا نَصًّا. نَعَم، النصُّ الصريحُ في تفضيلِ مَنْ أَنْفَقَ منْ قبلِ الفتحِ وقاتَلَ. وقد اختُلِفَ في السَّابقِينَ (فقِيلَ) كما قالَ الشَّعْبيُّ: (هُمْ)؛ أي: الذينَ شَهِدُوا بيعةَ الرضوانِ عامَ الحُديبيَةِ، رَوَاهُ سُنَيْدٌ وعَبْدٌ في تفسيرِهِ بسندٍ صحيحٍ عنهُ. (وقيلَ) كما قالَ مُحَمَّدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ وعطاءُ بنُ يَسَارٍ: (بَدْرِيٌّ)؛ أيْ: أهلُ بَدْرٍ. حكاهُ ابنُ عبدِ البَرِّ عنْ سُنَيْدٍ بسندٍ ضعيفٍ إليهما. (وقدْ قِيلَ: بَلَ اهْلُ) بالنَّقْلِ (القِبْلَتَيْنِ) الذينَ صَلَّوْا إليهما معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَهُ أبو مُوسَى الأشعريُّ. ورَوَاهُ سُنَيْدٌ وعبدٌ أيضاً بسندٍ صحيحٍ عنْ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وابنِ سِيرينَ وقَتَادَةَ. وهوَ عندَ عبدِ الرزَّاقِ في تَفْسيرِهِ، ومنْ طريقِهِ عَبْدٌ عنْ قَتَادَةَ وحْدَهُ. وكذا رُوِيَ عن الحسنِ. بلْ عن الحَسَنِ كما رَوَاهُ سُنَيْدٌ بسندٍ صحيحٍ عنهُ أَنَّهم الذينَ كَانَ إسْلامُهم قبلَ فتحِ مَكَّةَ. وصَحَّحَ بعضُ المُتأخِّرينَ أنَّهم الذينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا قبلَ بيعةِ الرِّضْوَانِ وصُلْحِ الحُدَيبيَةِ؛ لقولِهِ تعالي: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) الآيَةَ [الحديد: 10] قال: والفتحُ هوَ صُلْحُ الحُدَيبيَةِ على الأرجحِ، وفيها نزَلَتْ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح: 1]؛ ولذا لَمَّا سُئِلَ ابنُ تَيْمِيَّةَ عن المُفاضلةِ بينَ العبَّاسِ وبلالٍ رضِيَ اللَّهُ عنهما، قالَ: بِلالٌ وأَمْثَالُهُ مِن السابقِينَ الأوَّلِينَ أفضَلُ من العبَّاسِ وأمثالِهِ من التابعِينَ لهُ بإحسانٍ؛ لأنَّهُ قَيَّدَ التابعِينَ بشَرْطِ الإحسانِ. والحاصلُ أنَّ مَنْ قاتَلَ معَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أوْ في زَمانِهِ بأمْرِهِ، أوْ أَنْفَقَ شيئاً منْ مالِهِ بسَببِهِ، لا يَعْدِلُهُ في الفضلِ أحَدٌ بعدَهُ كائناً مَنْ كانَ. ولَكِنْ لم يُوَافَق ابْنُ تَيْمِيَّةَ على أفضليَّةِ بلالٍ معَ قَوْلِ أبي سُفيانَ بنِ الحَارِثِ: كانَ العَبَّاسُ أعظمَ الناسِ عندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، والصحابةُ يَعْتَرِفُونَ للعبَّاسِ بفضلِهِ، ويُشاوِرونَهُ ويَأْخُذُونَ برأيِهِ، وقَوْلِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ)، إلى غيرِ ذلكَ من المَناقبِ المُفْرَدةِ في عِدَّةِ تَآلِيفَ؛ كاستسقاءِ عُمَرَ بهِ رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وإنْ كانَ إنَّما أَسْلَمَ وهاجَرَ قُبَيْلَ الفتحِ، وكَمْ لهُ رضِيَ اللَّهُ عنهُ منْ مَآثِرَ حَسَنَةٍ قَبْلَ إسلامِهِ. وروَى ابنُ جَريرٍ وغيرُهُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ قالَ: (مَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ:
(وَالسَّابِقُونَ) الآيَةَ. فأخَذَ بيدِهِ فقالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ هذا؟ فقالَ: أُبَيُّ بنُ كعبٍ، فقالَ: لا تُفَارِقْنِي حتَّى أَذْهَبَ بكَ إليهِ. فلَمَّا جاءَهُ قالَ لهُ عُمَرُ: أَأَنْتَ أقرَأْتَ هذا هذهِ الآيَةَ هكذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: سَمِعْتَهَا منْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى أنَّا رُفِعْنَا رِفْعَةً لا يَبْلُغُها أَحَدٌ بَعْدَنا. فقالَ أُبَيٌّ: تَصدِيقُ هذهِ الآيَةِ في أَوَّلِ سُورةِ الجُمُعةِ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وفي سُورةِ الحشرِ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)، وفي الأنفالِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) الآيَةَ. (وَ) العاشرةُ: في أَوَّلِهم إسْلاماً وآخرِهم مَوْتاً. فأمَّا الأوَّلُ فَـ(اخْتُلِفْ أَيَّهُمُ) بالنَّصْبِ (أَسْلَمَ قَبْلُ مِنْ سَلَفْ)؛ أي: اختَلَفَ السَّلَفُ من الصحابةِ والتابعِينَ فمَنْ بَعْدَهم في أيِّ الصحابةِ أَوَّلُ إسْلاماً، على أقوالٍ. (فَقِيلَ) كما لابنِ عبَّاسٍ والنَّخَعِيِّ وغيرِهما مِمَّنْ سَأَحْكِي عنهُ: (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ؛ لقولِهِ كما في الترمذيِّ منْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ عنهُ: (أَلَسْتَ أَوَّلَ مَنْ أسْلَمَ). ولقولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لعَمْرِو بنِ عَبْسَةَ حينَ سألَهُ مَنْ مَعَكَ على هذا الأَمْرِ: (حُرٌّ وعَبْدٌ)؛ يعني أبا بَكْرٍ وبِلالاً. ولقولِ الشَّعْبِيِّ لِمَنْ سَأَلَهُ عنْ ذلكَ: أمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ: إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْواً منْ أَخِي ثِقَةٍ *** فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلا خَـيْرُ البَرِيَّةِ أَتْقَـاهَا وأَعْدَلُها *** بعـدَ النبيِّ وأَوْفَاهَا بما حَمَلا والثَّانِي والتَّالِي المَحْمُودُ مَشْهَدُهُ *** وأوَّلُ النَّاسِ مِنهم صَدَّقَ الرُّسُلا ولقولِ أبي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: وسُمِّيتَ صِدِّيقاً وكُلُّ مُهَاجِرٍ *** سِواكَ يُسَمَّى باسْمِهِ غَيْرَ مُنْكَرِ سَبَقْتَ إلى الإسلامِ واللَّهُ شَاهِدٌ *** وكُنْتَ جَلِيساً في العَرِيشِ المُشْهَرِ (وقيلَ: بلْ) أَوَّلُهم إسلاماً (عَلِي) بنُ أبي طَالِبٍ؛ لقولِهِ على المِنْبَرِ: (اللَّهُمَّ لا أَعْرِفُ عَبْدَكَ قَبْلِي غَيْرَ نَبِيِّكَ- ثلاثَ مَرَّاتٍ- لقدْ صَلَّيْتُ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ سَبْعاً). وسَنَدُهُ حَسَنٌ. ولقولِهِ مِمَّا أنشَدَهُ القُضَاعِيُّ: سَبَقْتُكُمْ إِلَى الإسلامِ طُرًّا *** صَغِيراً مَا بَلَغْتُ أَوَانِ حُلُمِي ولِمَا رُوِيَ في ذلكَ عنْ أَنَسٍ وجَابِرٍ وخَبَّابٍ وخُزَيْمَةَ وزيْدِ بنِ أرْقَمَ وسَلْمَانَ وابنِ عَبَّاسٍ أيضاً، وعَفِيفٍ الكِنْدِيِّ ومَعْقِلِ بنِ يَسارٍ والمِقْدادِ بنِ الأسودِ ويَعْلَى بنِ مُرَّةَ وأبِي أيُّوبَ وأبي ذَرٍّ وأَبِي رَافِعٍ وأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، في آخَرِينَ، منهم مُسْلِمٌ المُلائِيُّ. وأنشَدَ أبو عُبَيدِ اللَّهِ الْمَرْزُبَانِيِّ لخُزَيمةَ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ هذا الأَمْرَ مُنْصَرِفاً *** عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عنْ أَبِي حَسَنِ أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِهِـمْ *** وَأَعْلَمَ النَّـاسِ بِالفُرْقَانِ والسُّنَنِ وأنشَدَ ابنُ عبدِ البَرِّ لبَكْرِ بنِ حَمَّادٍ التَّاهَرْتِيِّ: قُلْ لابنِ مُلْجِمٍ والأقدارُ غَالِبَةٌ *** هَدَّمْتَ وَيْلَكَ للإسلامِ أَرْكَانَا قَتَلْتَ أفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ *** وأَوَّلَ الناسِ إِسْلاماً وإِيمَانَا وأنشَدَ الفرعانيُّ في الذيلِ لعبدِ اللَّهِ بنِ المُعتَزِّ يَذْكُرُ عَلِيًّا وسابقتَهُ معَ كَوْنِهِ يُرْمَى بأنَّهُ نَاصِبِيٌّ: فَأَوَّلُ مَنْ ضَلَّ فِي مَوْقِفٍ *** يُصَلِّي مَعَ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ (وَ) لكنْ (مُدَّعِي إِجْمَاعِهِ)؛ أي: الإجماعِ في هذا القولِ، وهوَ الحاكِمُ؛ حيثُ قالَ في (عُلُومِ الحديثِ) لهُ: لا أعلَمُ فيهِ خلافاً بينَ أصحابِ التواريخِ، وإِنَّمَا اختَلَفُوا في بُلُوغِ عَلِيٍّ، (لَمْ يُقْبَلِ)، بل استُنْكِرَ منهُ كما قالَهُ ابنُ الصلاحِ. وقالَ ابنُ كَثيرٍ: إنَّهُ لا دَلِيلَ على إطلاقِ الأوَّلِيَّةِ فيهِ منْ وَجْهٍ يَصِحُّ، هذا معَ أنَّ الحاكِمَ قالَ بعدَ حكايتِهِ الإجماعَ: والصحيحُ عندَ الجماعةِ أنَّ أبا بكرٍ أوَّلُ مَنْ أسلَمَ من الرجالِ البَالِغِينَ؛ لحديثِ عمرِو بنِ عَبْسَةَ الماضي. (وقِيلَ) حَسْبَما ذكرَهُ مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ: أَوَّلُهم إسلاماً (زَيْدٌ) هوَ ابنُ حَارِثَةَ، (وَادَّعَى) حالَ كَوْنِهِ (وِفَاقَا)؛ أيْ: مُوَافِقاً لِمَنْ سَبَقَهُ إلى مُطْلَقِ القولِ بهِ؛ كقَتَادَةَ وابنِ إسحاقَ صاحِبِ (المَغازِي). بلْ رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ أَيْضاً وعائشةَ والزُّهْرِيِّ ونَافَعِ بنِ جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ (بَعْضٌ)؛ كابنِ عَبْدِ البَرِّ والثَّعْلَبِيِّ، (عَلَى خَدِيجَةَ) أُمِّ المؤمنينَ في أَنَّها أَوَّلُ الخَلْقِ إسلاماً (اتِّفاقَا). زادَ الثَّعْلَبِيُّ: وإنَّ الاختلافَ إِنَّما هوَ فِيمَنْ بعدَها. وزادَ ابنُ عبدِ البَرِّ حكايَةَ الاتِّفَاقِ على أنَّ إسلامَ عَلِيٍّ بعدَها. قالَ ابنُ كثيرٍ: وكونُها أَوَّلَ الناسِ إسلاماً هوَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ في أَوَّلِ البَعثةِ. وقالَ النوويُّ: إنَّهُ الصوابُ عندَ جماعةِ المُحَقِّقِينَ. وجمَعَ ابنُ عبدِ البَرِّ بينَ الاختلافِ في ذلكَ بالنِّسْبَةِ إلى أبي بَكْرٍ وعَلِيٍّ بأنَّ الصحيحَ أنَّ أبا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أظهَرَ إِسْلامَهُ، ثمَّ رُوِيَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ أنَّ عَلِيًّا أَخْفَى إسلامَهُ منْ أَبِيهِ أبي طالبٍ، وأظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ إسلامَهُ؛ ولذلكَ شُبِّهَ على النَّاسِ. ونحوُهُ قولُ شيخِنا في قَوْلِ عَمَّارٍ: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وما معَهُ إلاَّ خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وامْرَأَتَانِ وأَبُو بَكْرٍ)، مُرادُهُ مِمَّن أظهَرَ إسلامَهُ، وإلاَّ فقدْ كانَ حينَئذٍ جَمَاعَةٌ مِمَّن أسلَمَ، لكنَّهم كَانُوا يُخْفُونَهُ منْ أقاربِهم. وكذا قالَ ابنُ إسحاقَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ خَدِيجَةُ، ثمَّ عَلِيٌّ. قالَ: فَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ آمَنَ، وهوَ ابْنُ عَشْرِ سِنينَ، ثُمَّ زَيْدٌ، فكانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أسْلَمَ بعدَ عَلِيٍّ، ثمَّ أبو بَكْرٍ فأظهَرَ إسلامَهُ ودَعَا إلى اللَّهِ، فأسْلَمَ بِدُعَائِهِ عُثْمانُ والزُّبَيْرُ وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ وسعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ وطَلْحَةُ، فَكَأَنَّ هؤلاءِ النَّفَرَ الثمانيَةَ أَسْبَقُ الناسِ بالإسلامِ. وقيلَ فيما نقَلَهُ أبو الحسَنِ المَسعودِيُّ عنْ بعضِهم: أوَّلُهم إسلاماً بلالٌ؛ لحديثِ عمرِو بنِ عَبْسَةَ الماضي. وقدْ جمَعَ ابنُ الصلاحِ بينَ هذهِ الأقوالِ فقالَ: والأَوْرَعُ أنْ يُقالَ: أوَّلُ مَنْ أسلَمَ من الرجالِ الأَحْرَارِ أبو بَكْرٍ، ومِن الصِّبْيانِ عَلِيٌّ، ومن النِّسَاءِ خَديجةُ، ومن المَوَالِي زيدٌ، ومِن العبيدِ بِلالٌ. وهوَ أحْسَنُ ما قيلَ؛ لاجتماعِ الأقوالِ بهِ. على أنَّهُ قدْ سُبِقَ بهِ ما عَدَا بِلالاً، فذكَرَ ابنُ قُتَيبةَ أنَّ إسحاقَ ابنَ رَاهْوَيْهِ ذكَرَ الاختلافَ في أَوَّلِ مَنْ أسلمَ، فقالَ: الخَبَرُ في كلِّ ذلكَ صحيحٌ، أمَّا أَوَّلُ مَنْ أسلَمَ من النساءِ فخديجةُ، وأمَّا أَوَّلُ مَنْ أسلَمَ مِن الرجالِ فأَبُو بَكْرٍ، وأمَّا أوَّلُ مَنْ أسلَمَ من المَوَالِي فزيدٌ، وأمَّا أوَّلُ مَنْ أسلَمَ من الصِّبْيانِ فَعَلِيٌّ. وكذا جاءَ بدُونِهِ وبدُونِ زَيْدٍ أيضاً عنْ أبي حنيفةَ، فَرَوَى الحاكمُ في ترجمةِ أحمدَ بنِ عَبَّاسِ بنِ حَمْزَةَ الواعظِ منْ تاريخِ نَيْسابورَ منْ طريقِ أبي مِسْهَرٍ: ثَنَا سعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ قالَ: كانَ أبو حَنيفةَ يقولُ: أوَّلُ مَنْ أسلَمَ من الرجالِ أبو بكرٍ، ومن النِّساءِ خديجةُ، ومن الصبيانِ عَلِيٌّ. وكانَ البُرْهَانُ التَّنُوخِيُّ يقولُ: الأَوْلَى أنْ يُقالَ: ومِنْ غَيْرِ البَالِغينَ عَلِيٌّ، وهوَ حَسَنٌ. وفي المسألةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، فعندَ عمرَ بنِ شَبَّةَ عنْ خالدِ بنِ سَعيدِ بنِ العاصِ قالَ: أَسْلَمْتُ قبلَ عَلِيٍّ، لَكِنِّي كُنْتُ أَفْرَقُ أَبَا أُحَيْحَةَ، يَعْنِي وَالِدَهُ، وكانَ لا يَفْرَقُ أبا طَالِبٍ. وعنْ ضَمْرَةَ بنِ رَبيعةِ أنَّ إسلامَ خالدٍ كانَ معَ إسلامِ أبي بَكْرٍ. وللدَّارَقُطْنِيِّ في (الأَفْرَادِ) بسندٍ ضَعِيفٍ منْ طريقِ ابنتِهِ أُمِّ خَالِدٍ قَالَتْ: (أَبِي أَوَّلُ مَنْ أسْلَمَ). لكنْ في روايَةٍ عنها: (كانَ أَبِي خَامِساً، سَبَقَهُ أبو بَكْرٍ وعَلِيٌّ وزيدُ بنُ حارثةَ وسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ). وعنْ بعضِهم كما حَكَاهُ المَسْعوديُّ: أَوَّلُهم خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ، وكأنَّهُ تَمَسَّكَ بما قيلَ: إنَّهُ أوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إسلامَهُ. لكنْ روَى الْبَاوَرْدِيُّ أنَّهُ أسلَمَ سادسَ سِتَّةٍ. وعَن ابنِ قُتَيبةَ فيمَا نقَلَهُ المَاوَرْدِيُّ في (أعلامِ النُّبُوَّةِ) لهُ: أَوَّلُهم أبو بَكْرِ بنُ أَسْعَدَ الحِمْيريُّ. ويَحْتاجُ هذا النقْلُ إلى تحريرٍ. وَنَقَلَ ابنُ سَبْعٍ في الخصائصِ النَّبَوِيَّةِ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ قالَ: (كُنْتُ أَوَّلَهم إسْلاماً). وهوَ غَرِيبٌ. والمعروفُ منْ هذا كُلِّهِ الأوَّلُ، لكنْ قالَ المُصنِّفُ في (التَّقْيِيدِ): يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: أوَّلُ مَنْ آمَنَ من الرجالِ ورَقَةُ، يَعْنِي بِناءً على ذِكْرِ ابنِ مَنْدَهْ وغيرِهِ لهُ في الصحابةِ. 808- وماتَ آخِراً بِغَيْرِ مِرْيَةِ *** أَبُو الطُّفَيْلِ ماتَ عامَ مِائَةِ 809- وقبلَهُ السَّائِبُ بالمدينةِ *** أوْ سَهْلٌ اوْ جابِرٌ اوْ بِمَكَّةِ 810- وقيلَ: الاخِرُ بها ابنُ عُمَرَا *** إلاَّ أَبُو الطُّفَيْلِ فيهَا قُبِرَا 811- وأنَسُ بنُ مالِكٍ بالبَصرَةِ *** وابنُ أَبِي أَوْفَى قَضَى بالكُوفَةِ 812- والشامِ فابْنُ بُسْرٍ اوْ ذُو باهِلَهْ *** خُلْفٌ وقيلَ: بدِمَشْقَ واثِلَهْ 813- وأنَّ في حِمْصَ ابنَ بُسْرٍ قُبِضَا *** وأنَّ بالْجَزيرةِ العُرْسَ قَضَى 814- وبِفِلَسْطِينَ أَبُو أُبَيِّ *** ومِصرَ فابْنُ الحارِثِ بنِ جَزْيِ 815- وقُبِضَ الْهِرْمَاسُ باليمامَةِ *** وقبلَهُ رُوَيْفِعٌ بِبَرْقَةِ 816- وقيلَ إِفْرِيقِيَةٍ وسَلَمَهْ *** بَادِياً اوْ بِطَيْبَةَ الْمُكَرَّمَهْ [من آخر الصحابة موتا] (وَ) أمَّا الثاني، وهوَ مُطْلَقٌ ومُقَيَّدٌ، فَـ(مَاتَ) منهم (آخِراً) على الإطلاقِ (بِغَيْرِ مِرْيَةِ) بكسرِ الميمِ وَضَمِّهَا؛ أيْ: شَكٍّ، (أَبُو الطُّفَيْلِ) عَامِرُ بنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ، كما ثبَتَ منْ قولِهِ حيثُ قالَ: (رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وما على وَجْهِ الأرضِ رَجُلٌ رآهُ غَيْرِي). وبذلكَ جَزَمَ مُصْعَبٌ الزُّبَيريُّ وأبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ وخَلْقٌ، بلْ أجمَعَ عليهِ أهلُ الحديثِ. ومِمَّنَ جَزَمَ بهِ مسلمُ بنُ الحَجَّاجِ، وإنَّهُ (ماتَ عَامَ مائةِ)؛ أيْ: من الهجرةِ. وكذا قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ، لكنْ قالَ خَلِيفَةُ: إنَّهُ ماتَ بعدَ سنةِ مائةٍ. وعن ابنِ البَرْقِيِّ: سنةَ اثنتيْنِ ومائةٍ. وعنْ مُبارَكِ بنِ فَضَالَةَ: سَنَةَ سَبْعٍ. وبهِ جزَمَ غيرُ وَاحِدٍ. وعنْ جَريرِ بنِ حازِمٍ: سَنَةَ عَشْرٍ. وصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ في (الوَفَيَاتِ)، وشَيْخُنا في تَرْجَمَةِ عِكْرَاشٍ منْ (التهذيبِ). وكانتْ وَفاتُهُ بمَكَّةَ كما قالَهُ ابنُ المَدينِيِّ وابنُ حِبَّانَ وغيرُهما. وقيلَ: بالكُوفةِ. والأوَّلُ أصَحُّ. وحِينَئذٍ فيكونُ الصحيحِ أَنَّهُ آخِرُ مَنْ ماتَ بمَكَّةَ أيضاً من الصَّحَابَةِ كما جزَمَ بهِ ابنُ حِبَّانَ وأبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ. بلْ هوَ آخِرُ المائةِ التي أشارَ إليها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في أواخرِ عُمُرِهِ كما صَحَّ عنهُ بقولِهِ: (أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ). أخرَجَهُ البخاريُّ في السَّمَرِ في الخَبَرِ بعدَ العشاءِ من الصلاةِ، في السَّمَرِ أيضاً من العِلْمِ، وبهِ تَمَسَّكَ هوَ وغيرُهُ للقَوْلِ بموتِ الخَضِرِ. لكنْ قالَ النَّووِيُّ: إنَّ الجمهورَ على خلافِهِ. وأَجَابُوا عنهُ أنَّ الخَضِرَ كانَ حِينَئِذٍ منْ سَاكِنِي البحرِ، فلم يَدْخُلْ في العُمُومِ. قَالُوا: ومَعْنَى الحديثِ لا يَبْقَى مِمَّنْ تَرَوْنَهُ أوْ تَعرِفونَهُ، فَهُوَ عامٌّ أُرِيدَ بهِ الخصوصُ. وقالُوا أيضاً: خرَجَ عِيسَى عليهِ السلامُ منْ ذلكَ معَ كونِهِ حَيًّا؛ لأنَّهُ في السماءِ لا في الأرضِ، إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا لهُ غيرُ هذا المَحَلِّ. وذكَرَ البَيْهَقِيُّ في (الدَّلائلِ) هذا الحديثَ فيما أَخْبَرَ بهِ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من الكَوَائِنِ بعدَهُ، فكانَ كما أَخبَرَ. وأمَّا ما ذكَرَهُ ابنُ قُتَيبةَ في (المَعارفِ)، وابنُ دُرَيْدٍ في الاشتقاقِ منْ أنَّ عِكْرَاشَ بنَ ذُؤَيْبٍ، أَحَدَ المَعْدُودِينَ في الصَّحابةِ، شَهِدَ الجَمَلَ معَ عَائِشَةَ، فقالَ الأحْنَفُ: كَأَنَّكُمْ بهِ وقَدْ أُتِيَ بهِ قَتِيلاً أوْ بهِ جِرَاحةٌ لا تُفارِقُهُ حتَّى يموتَ، قالَ: فَضُرِبَ ضَرْبَةً على أَنْفِهِ عاشَ بعدَها مائةَ سَنَةٍ، أوْ أَثَرُ الضرْبَةِ بهِ. فهذهِ الحكايَةُ كما قالَ شيخُنا إنْ صَحَّتْ معَ انقطاعِها حُمِلَتْ على أنَّهُ أَكْمَلَ المائةَ منْ عُمُرِهِ، لا أنَّهُ اسْتَأْنَفَها منْ يومَئذٍ، وإلاَّ لاقْتَضَى ذلكَ أنْ يَكُونَ عَاشَ إلى دَوْلةِ بَنِي العَبَّاسِ، وهوَ مُحالٌ؛ إذ المُحدِّثونَ قد اتَّفَقوا على أنَّ أبا الطُّفَيْلِ آخَرُ الصحابةِ مَوْتاً. وسبَقَهُ شيخُهُ المُصنِّفُ لنحوِهِ فقالَ: وهذا إمَّا بَاطِلٌ أوْ مُؤَوَّلٌ. وكذا توَقَّفَ البُلْقِينِيُّ في صِحَّتِهِ. نعَم، استدرَكَ هوَ على القولِ بآخِرِيَّةِ أبي الطُّفَيْلِ نافعَ بنَ سُليمانَ العَبْدِيَّ؛ فقَدْ روَى حديثَهُ إسحاقُ ابنُ رَاهْوَيْهِ في مُسنَدِهِ قالَ: أخْبَرَنِي سُلَيْمانُ بنُ نافعٍ العَبْدِيُّ بِحَلَبَ قالَ: قالَ لي أَبِي: وَفَدَ المُنْذِرُ بنُ سَاوَى من البَحْرَيْنِ حتَّى أتَى مَدِينةَ الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ومعَهُ أُنَاسٌ، وأنا غُلَيْمٌ لا أَعْقِلُ، أُمْسِكُ جِمَالَهم، فذَهَبُوا بسلاحِهم فسَلَّموا على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ووضَعَ المُنْذِرُ سلاحَهُ ولَبِسَ ثِيَاباً كانتْ معَهُ، ومسَحَ لِحْيَتَهُ بِدُهْنٍ، فأتَى نَبِيَّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وأنا معَ الجِمَالِ أنظُرُ إلى نَبِيِّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كما أَنْظُرُ إليكَ، ولكنْ لم أعْقِلْ، فقالَ المُنذِرُ: قالَ لِيَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (رَأَيْتُ مِنْكَ مَا لَمْ أَرَ مِنْ أَصْحَابِكَ)، فقُلْتُ: أَشَيْءٌ جُبِلْتُ عليهِ أَمْ أَحْدَثْتُهُ؟ قالَ: (لا، بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِ). فلَمَّا أَسْلَمُوا قالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (أَسْلَمَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ طَوْعاً، وَأَسْلَمَ النَّاسُ كَرْهاً). قالَ سُلَيمانُ: وعاشَ أَبِي مائةً وعشرينَ سَنَةً. وأخرَجَهُ الطَّبرانيُّ في مُعْجَمَيْهِ وابنُ قانِعٍ، جميعاً عنْ مُوسَى بنِ هَارُونَ عنْ إسْحاقَ. وكذا أخرَجَهُ ابنُ بِشْرَانَ في أمَاليهِ عَنْ دَعْلَجٍ عنْ مُوسَى. وقالَ مُوسَى: ليسَ عندَ إسحاقَ أَعْلَى منْ هذا. انْتَهَى. لكنْ قدْ ذكَرَ شَيخُنا سُلَيمانُ في كتابِهِ في (الضُّعَفاءِ)، وقالَ: إنَّهُ غيرُ مَعْروفٍ. وذَكَرَهُ ابنُ أبي حَاتِمٍ عنْ أَبِيهِ، ولم يَذْكُرْ فيهِ جَرْحاً، قالَ: وإنْ صَحَّ يَكُونُ نَافِعٌ قدْ عَاشَ إلى دولةِ هِشَامٍ، إِلاَّ أَنِّي أَظُنُّ أنَّ سُلَيْمَانَ وَهِمَ في سِنِّ أَبِيهِ، فَمُحَالٌ أنْ يَبْقَى أحَدٌ رأَى النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعدَ سنةِ عَشْرٍ ومائةٍ. وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: والقِصَّةُ التي ذَكَرَها للمُنْذِرِ بنِ سَاوَى مَعْرُوفَةٌ للأَشَجِّ، واسمُهُ المُنذِرُ بنُ عَائِذٍ. قالَ: وأظُنُّ سُليمانَ وَهِمَ في ذِكْرِ سِنِّ أَبِيهِ؛ لأنَّهُ لوْ كَانَ غُلاماً سَنَةَ الوُفودِ، وعَاشَ هذا القدْرَ، لَبَقِيَ إلى سنةِ عِشْرينَ ومائةٍ، وهوَ باطِلٌ، فَلَعَلَّهُ قالَ: عاشَ مِائَةً وعَشْراً؛ لأنَّ أَبَا الطُّفَيلِ آخِرُ مَنْ رَأَى النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مَوْتاً، وأكثرُ ما قِيلَ في وفاتِهِ كما تَقدَّمَ: إِنَّها سَنَةَ عَشْرٍ ومائةٍ. وقدْ ثبَتَ في الصحيحيْنِ أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ في آخِرِ عُمُرِهِ: (لا يَبْقَى بَعَدَ مِائَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ). وأَرَادَ بذلكَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ، فكانَ كذلكَ. قُلْتُ: ودَعْوَى مَن ادَّعَى الصُّحبةَ أو ادُّعِيَتْ لهُ بعدَ أبي الطُّفَيْلِ، وهم جُبَيْرُ بنُ الحارثِ، والربيعُ بنُ مَحمودٍ الْمَارِدِينِي، ُّ ورَتَنٌ وسرباتكُ الهِنْدِيَّانِ، وَمَعْمَرٌ، ونُسْطُورٌ أَوْ جَعْفَرُ بنُ نُسْطُورٍ الرُّومِيُّ، ويُسْرُ بنُ عُبَيدِ اللَّهِ، الَّذِينَ كانَ آخِرَهم رَتَنٌ؛ فإنَّهُ فيما قِيلَ: ماتَ سَنَةَ اثنتيْنِ وثلاثِينَ وسِتِّمائةٍ- باطِلَةٌ. والكلامُ في شَأْنِهم مَبْسوطٌ في (لسانِ المِيزانِ) لشيخِنا، وفي غيرِهِ منْ تَصانيفِهِ. بلْ قالَ، وقدْ سُئِلَ عنْ طُرُقِ المُصافحةِ إلى المُعَمَّرِ ما نَصُّهُ: لا يَخْلُو طَرِيقٌ منْ طُرُقِ المُعَمَّرِ عنْ مُتَوَقِّفٍ فيهِ حتَّى المُعَمَّرِ] نَفْسِهِ؛ فإنَّ مَنْ يَدَّعِي هذهِ الرُّتبةَ يَتوَقَّفُ على ثُبوتِ العدالةِ، وإمكانُ ثُبُوتِ ذلكَ عِنادٌ لا يُفِيدُ معَ وُرودِ الشرعِ بنفيِهِ؛ فإنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أخبَرَ بانْخِرَامِ قَرْنِهِ بعدَ مائةِ سنةٍ منْ يَوْمِ مَقالتِهِ. فمَن ادَّعَى الصُّحْبةَ بعدَ ذلكَ لَزِمَ أنْ يَكُونَ مُخالفاً لظاهرِ الخَبَرِ، فلا يُقْبَلُ إلاَّ بطريقٍ يَنقطِعُ العُذْرُ بها، ويُحْتَاجُ معَها إلى تأويلِ الحديثِ المُشارِ إليهِ. ومِمَّا استظَهَرَ بهِ ابنُ الجَزَرِيِّ لِبُطْلانِ الدَّعْوَى في هؤلاءِ كَوْنُ الأئمَّةِ؛ كأحمدَ والبخاريِّ والدَّارِمِيِّ وعبدٍ، مِمَّن رَحَلَ الأقطارَ، وجابَ الأمصارَ، وحرَصَ على الإسنادِ العالِي، أعْلَى ما عندَهم الثُّلاثِيَّاتُ معَ قِلَّتِها جِدًّا؛ إذْ خفاءُ الصحابةِ على مثلِهم بعيدٌ معَ تَوَفُّرِ الهِمَمِ على نقلِهِ. وبَيَّنَ أنَّ ظُهورَ المُسَمَّى بِمُعَمَّرٍ المغربيِّ المُدَّعَى فيهِ الصُّحْبَةُ ومُصافَحَةُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لهُ، وقولُهُ لهُ: (عَمَّرَكَ اللَّهُ)، كانَ في حُدُود السَّبْعِمِائَةِ أوْ بعدَها، ثمَّ قالَ: وكلُّ هؤلاءِ كَذَّابونَ دَجَّالونَ، لا يُشْتَغَلُ بحديثِهم ولا بأمثالِهم. (وَ) أمَّا آخِرُهم مَوْتاً بالنِّسبةِ إلى النَّواحِي، فمَاتَ (قَبْلَهُ)؛ أيْ: قبلَ أبي الطُّفَيْلِ؛ إمَّا (السائِبُ) بنُ يَزِيدَ ابنُ أُخْتِ النَّمِرِ (بالمدينةِ) النبويَّةِ، (أوْ سَهْلٌ)، هوَ ابنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، (اوْ جَابِرٌ) بالنَّقْلِ، هوَ ابنُ عبدِ اللَّهِ الأنصاريُّ؛ أيْ: فِيهَا، كما قيلَ بهِ في كلِّ واحدٍ من الثلاثةِ، فجزَمَ بهِ في الأوَّلِ أبو بكرِ بنُ أبي داودَ، وفي الثاني ابنُ المَدينيِّ والوَاقدِيُّ وإبراهيمُ بنُ المُنذِرِ الحِزَامِيُّ وابنُ حِبَّانَ وابنُ قَانِعٍ وأَبُو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ وابنُ سَعْدٍ، وادَّعَى نَفْيَ الخلافِ فيهِ فقالَ: ليسَ بينَنا في ذلكَ اختلافٌ، بلْ أطلَقَ أبو حَازمٍ أنَّهُ آخِرُ الصحابةِ مَوْتاً، وكأنَّهُ أخَذَهُ منْ قولِ سَهْلٍ نفسِهِ: لوْ مِتُّ لَمْ تَسْمَعُوا أَحَداً يقولُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. ولكنَّ الظاهرَ كما قالَ المُؤَلِّفُ: إنَّهُ أرادَ أهلَ المدينةِ خاصَّةً؛ يعني معَ احتياجِهِ إلى تَأْوِيلٍ أيضاً. وفي الثالثِ أَبُو نُعَيمٍ وقَتَادَةُ فيما رَوَاهُ أحمدُ عنهُ، وصَدَّرَ بهِ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ. والخلافُ في ذلكَ مُترَتِّبٌ عليهِ في وَفَيَاتِهم. فأمَّا الأوَّلُ فقِيلَ: إنَّها سنةَ ثَمَانِينَ أوْ بعدَها باثنتيْنِ، فيما قالَهُ أبو نُعَيْمٍ أوْ بِسِتٍّ أوْ بِثَمَانٍ. وقالَ الجَعْدُ بنُ عبدِ الرحمنِ والفَلاَّسُ والوَاقِدِيُّ: سَنَةَ إحْدَى وتِسْعِينَ. وبهِ جَزَمَ ابنُ حِبَّانَ. ويَتأيَّدُ بذِكْرِ البخاريِّ لهُ: فَصْلُ مَنْ مَاتَ ما بينَ التِّسْعِينَ إلى المائةِ. وقيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وتسعينَ. وكانَ مَوْلِدُهُ إمَّا في الثانيَةِ أو الثالثةِ من الهجرةِ. وثبَتَ قولُهُ: حُجَّ بِي معَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأنا ابنُ سَبْعٍ.
وأمَّا الثاني، فَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وثمانينَ، قَالَهُ أَبُو نُعَيْمٍ. وقيلَ: إحْدَى وتسعينَ، قالَهُ الواقدِيُّ والمَدَائِنِيُّ ويحيى بنُ بُكَيْرٍ وابنُ نُمَيْرٍ وإبراهيمُ بنُ المُنْذِرِ الحِزَامِيُّ. ورَجَّحَهُ ابنُ زَبْرٍ وابنُ حِبَّانَ. لكنْ مُقْتَضَى قولِ أبي حَاتِمٍ: إنَّهُ عَاشَ مائةَ سنةٍ أوْ أكثَرَ، معَ ما ثبَتَ منْ أنَّ مَوْلِدَهُ قبلَ الهِجْرةِ بخمسِ سِنِينَ، أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ إلى سَنَةِ سِتٍّ وتِسْعِينَ أوْ بعدَها. ونحوُهُ قولُ الوَاقِدِيِّ: إنَّهُ عاشَ مائةَ سَنَةٍ. وقيلَ: سِتًّا وتِسْعِينَ. وأمَّا الثالِثُ، فمَاتَ قبلَ الثمانينَ. قيلَ: سَنَةَ اثنتيْنِ، كما قالَهُ ابنُ زَبْرٍ. أوْ ثلاثٍ، كما قالَهُ ابنُ سَعْدٍ والهيثمُ بنُ عَدِيٍّ. أوْ أربعٍ، كما قالَهُ بعضُهم. أوْ سَبْعٍ، كَمَا قالَهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى بنِ حِبَّانَ وأبُو نُعَيْمٍ. أوْ ثمانٍ، كما قالَهُ خَلْقٌ؛ منهم يحيَى بنُ بُكَيْرٍ والفَلاَّسِ. أوْ تِسْعٍ، كما قالَهُ خَلِيفَةُ في روايَةٍ وغيرُهُ. كلُّ ذلكَ بعدَ السَّبْعِينَ، وكُلُّهم أَبْنَاءُ صحابةٍ أيضاً. والأشْبَهُ أنَّ الثانيَ آخِرُهم، على أنَّهُ قد اختُلِفَ أيضاً في كَوْنِ وَفَاةِ الأخيرَيْنِ بالمدينةِ. فأمَّا أَوَّلُهُمَا، فقيلَ فيهِ: إنَّهُ ماتَ بإِسْكَنْدَرِيَّةَ أوْ مِصْرَ. ولكنْ قالَ شَيْخُنا: المشهورُ أنَّ ذلكَ ولَدُهُ عَبَّاسٌ، فلَعَلَّهُ اشْتَبَهُ على حَاكِيهِ.
وأمَّا ثَانِيهِمَا، فقيلَ: إنَّهُ ماتَ بِقُبَاءٍ (اوْ بِمَكَّةِ) بالنَّقْلِ معَ الصَّرْفِ؛ للضَّرُورَةِ، فيما قالَهُ أبو بكرِ بنُ أبي دَاوُدَ: وإنَّهُ آخِرُ مَنْ ماتَ بها. ولكنَّ الجمهورَ على المدينةِ. وكذَا قدْ تَأَخَّرَ عنهم مِمَّنْ ماتَ بالمدينةِ محمودُ بنُ لَبِيدٍ الأشْهَلِيُّ إنْ مَشَيَا على قولِ البخاريِّ وابنِ حِبَّانَ بِصُحْبتِهِ، وإِلاَّ فقدْ عَدَّهُ مسلمٌ وجماعةٌ في التابعِينَ. ومحمودُ بنُ الربيعِ الذي عَقَلَ مَجَّةَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في وَجْهِهِ وهوَ ابنُ خَمْسِ سِنِينَ. فأمَّا أَوَّلُهما، فماتَ سَنَةَ خَمْسٍ وتِسْعِينَ أو التي بعدَها. وأمَّا ثَانِيهما، فماتَ سَنَةَ تِسْعٍ وتِسْعِينَ. (وقِيلَ: الاخِرُ) بالنقْلِ مَوْتاً (بِهَا)؛ أيْ: بِمَكَّةَ بعدَ ما عُلِمَ منْ أنَّ الصحيحَ في جَابِرٍ أنَّهُ لم يَمُتْ بمَكَّةَ، فَضْلاً عنْ أنْ يَكُونَ الآخِرَ بها، (ابْنُ عُمَرَا) عبدُ اللَّهِ، فيما قالَهُ قَتَادَةُ، وأبو الشَّيخِ ابنُ حَيَّانَ في تاريخِهِ، وابنُ الْجَوْزِيِّ في (التلقيحِ). وبهِ صدَّرَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ. والخِلافُ فيهِ أَيْضاً يَنْشَأُ عنهُ في وَقْتِ وَفَاتِهِ، فقِيلَ: إِنَّها سَنَةَ اثنتيْنِ وسَبْعِينَ أوْ ثلاثٍ، وجَزَمَ بهِ أحمدُ وأَبُو نُعَيْمٍ ويَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ والجمهورُ. أوْ أَرْبَعٍ، وبهِ جزَمَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وخَلِيفةُ والوَاقدِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ زَبْرٍ، وقالَ: إنَّهُ أُثْبِتَ عنْ سَبْعٍ وثَمانِينَ على الصحيحِ. واخْتُلِفَ في مَحَلِّ دَفْنِهِ منها، فقالَ ابنُهُ سالِمٌ: بِفَخٍّ، بالفاءِ والخاءِ المُعْجمةِ، وهوَ فيما قِيلَ وَادِي الظاهرِ. وتَبِعَهُ ابنُ حِبَّانَ وابنُ زَبْرٍ وغيرُهما. وقالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيريُّ: بِذِي طُوًى؛ يعني بمَقْبرةِ المُهاجرِينَ. وقالَ غيرُهما: بالمُحَصَّبِ. والصحيحُ أنَّهُ بالمقبرةِ العُلْيا عندَ ثَنِيَّةِ أَذَاخِرَ، كما في تاريخِ الأَزْرَقِيِّ وغيرِهِ، وهوَ يَقْرُبُ من القولِ الثالثِ. وأمَّا ما يَقولُهُ الناسُ منْ أنَّهُ بالجَبَلِ الذي بالمعلاةِ، فلا يَصِحُّ منْ وَجْهٍ. وبالجُمْلَةِ، فلم يَخْتَلِفُوا في أنَّهُ تُوُفِّيَ بمَكَّةَ، وإِنَّما يَكُونُ كُلٌّ مِن ابنِ عُمَرَ وجابرٍ على القولِ المَرْجوحِ فيهِ آخِرَ مَنْ ماتَ بمَكَّةَ. (إِلاَّ)؛ أيْ: إنْ لَمْ يَكُنْ، (أَبُو الطُّفَيْلِ) الماضي أوَّلاً (فِيهَا)؛ أيْ: في مَكَّةَ، قَدْ (قُبِرَا). ولكنَّ الصحيحَ أنَّهُ قُبِرَ بها كَمَا قَدَّمْتُهُ. (وأنَسُ بنُ مَالِكٍ) الآخِرُ مَوْتاً (بالبَصْرةِ) بتثليثِ المُوَحَّدَةِ، والكسرُ أَصَحُّها فيما قالَهُ قَتادَةُ وأبو هلالٍ والفلاَّسُ وابنُ المَدِينِيِّ وابنُ سَعْدٍ وأبو زَكَرِيَّا ابنُ مَنْدَهْ وغيرُهم. وكانَتْ وَفَاتُهُ في سَنَةِ تِسْعِينَ أوْ إحْدَى أو اثنتيْنِ أوْ ثلاثٍ، ورَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ والذَّهَبِيُّ. والذي قَبِلَهُ ابنُ الأثيرِ، وهوَ قولُ الوَاقِدِيِّ: أوْ خَمْسٍ أوْ سِتٍّ عنْ مِائَةٍ ونَيِّفٍ. بلْ قِيلَ: وعَشْرٍ، وهوَ عَجِيبٌ. وقدْ قالَ شَيْخُنا: أكثرُ ما قِيلَ في سِنِّهِ إذْ قَدِمَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ: عَشْرُ سِنينَ. وأَقْرَبُ ما قِيلَ في وفاتِهِ: سَنَةَ ثلاثٍ وتسعينَ. فعلَى هذا غايَةُ ما يكونُ عُمُرُهُ مِائَةَ سَنَةٍ وثَلاثَ سِنِينَ. وقدْ نَصَّ على ذلكَ خليفةُ بنُ خَيَّاطٍ في تاريخِهِ، فقالَ: ماتَ سَنَةَ ثلاثٍ وتِسْعِينَ، وهوَ ابنُ مائةٍ وثلاثِ سِنِينَ. وقولُ حُمَيْدٍ، وكذا الوَاقِدِيُّ: مائةٍ إِلاَّ سَنَةً. قالَ النوويُّ: إنَّهُ شاذٌّ مَرْدُودٌ. وقالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: وما أعلَمُ أحداً ماتَ بعدَهُ مِمَّنْ رأَى النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إِلاَّ أَبَا الطُّفَيْلِ. وانْتُقِدَ بمحمودِ بنِ الربيعِ كما تَقدَّمَتْ وَفَاتُهُ، وبعبدِ اللَّهِ بنِ بُسْرٍ كما سيأتي في قولِ عبدِ الصَّمَدِ. وكأنَّ مُسْتنَدَ ابنِ عبدِ البَرِّ قولُ أنَسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَأَنْتَ آخِرُ الصحابةِ؟: قدْ بَقِيَ قَوْمٌ من الأعرابِ، فَأَمَّا منْ أصْحَابِهِ فأَنَا آخِرُهم. ولكنَّ قولَهُ بخُصُوصِهِ قابلٌ للتأويلِ بحملِهِ على صُحْبةٍ خَاصَّةٍ، أوْ إنَّهُ ذكَرَ ما عَلِمَهُ، كما يُجابُ بهِ عن ابنِ عَبْدِ البَرِّ، وقدْ أَشَرْتُ إلى ذلكَ في تعريفِ الصحابيِّ. (وابنُ أَبِي أَوْفَى)، وهوَ عبدُ اللَّهِ الأسْلَمِيُّ، (قَضَى)؛ أيْ: ماتَ خَاتِمَتَهُم، (بالكُوفَةِ) فيما قالَهُ قَتادَةُ والحسنُ والفلاَّسُ وابنُ حِبَّانَ وابنُ زَبْرٍ وابنُ عَبْدِ البَرِّ وأبو زَكَرِيَّا ابنُ مَنْدَهْ وابنُ الجَوْزِيِّ في (التلقيحِ). وكانَتْ وفاتُهُ في سَنَةِ سِتٍّ وثَمَانِينَ أوْ سَبْعٍ أوْ ثَمانٍ. وقيلَ: بلْ آخِرُ أهلِ الكُوفةِ أبو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوائِيُّ، قَالَهُ عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ وَفاةَ أبي جُحَيْفَةَ سَنَةَ ثلاثٍ وثمانينَ، وقيلَ: أَرْبَعٍ وسبعينَ. نَعَمْ، عمرُو بنُ حُرَيْثٍ، وهوَ قَدْ مَاتَ بها، قد اختُلِفَ في وقتِ وَفَاتِهِ، فقيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وتِسْعِينَ، كما رَوَاهُ الخَطيبُ في (المُتَّفِقِ والمُفْترِقِ) لهُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ. فَعَلَى هذا هوَ آخِرُ مَنْ ماتَ بها. ولكنْ تَوَقَّفَ شيخُنا في كونِها بتقديمِ التاءِ الفَوْقَانِيَّةِ على السينِ، وقالَ: فيهِ نَظَرٌ، ولعَلَّهُ بتقديمِ السِّينِ على المُوحَّدَةِ، لا سِيَّما وقدْ حَكَاهُ خَلِيفَةُ بنُ خَيَّاطٍ كذلكَ في تاريخِهِ. وكذا جزَمَ شيخُنا في (الإصابةِ) بعدمِ ثُبوتِهِ. وحينَئذٍ فَابْنُ أبي أَوْفَى بعدَهُ، وكذا يكونُ بعدَهُ على القولِ بأنَّ عَمْراً ماتَ سنَةَ خَمْسٍ وثَمانِينَ كما قالَهُ البُخاريُّ وغيرُه؛ كابنِ حِبَّانَ، في ثِقاتِهِ، وقالَ: إنَّها بِمَكَّةَ. وبِكُلِّ هذا ظهَرَ أنَّ ابنَ أَبِي أوْفَى آخِرُ أهلِ الكُوفةِ، بلْ هوَ آخِرُ مَنْ شَهِدَ بيعةَ الرضوانِ وفاةً. (وَ) أمَّا الآخِرُ منهم مَوْتاً بِـ(الشَّامِ) بِفَتْحِ الشينِ ثمَّ أَلِفٍ؛ إمَّا معَ هَمْزَةٍ ساكنةٍ أوْ بِدُونِها على لُغَتَيْنِ مِنْ لُغاتِها، بِأَسْرِها، (فَـ) إِمَّا (ابنُ بُسْرٍ) بضمِّ المُوحَّدَةِ ثمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، واسْمُهُ عبدُ اللَّهِ المَازِنِيُّ، (اوْ ذُو بَاهِلَهْ)، وهوَ أبو أُمَامةَ صُدَيُّ بنُ عَجْلانَ الْبَاهِلِيُّ، (خُلْفٌ)؛ أيْ: في ذلكَ اختلافٌ. فالقَائِلُونَ بالأوَّلِ الأَحْوَصُ بنُ حَكِيمٍ وابنُ المَدينيِّ وابنُ سَعْدٍ تَبَعاً للواقديِّ، وابنُ حِبَّانَ وابنُ قَانِعٍ وابنُ عَبْدِ البرِّ وغيرُهم. وبالثَّانِي الحَسَنُ البَصْرِيُّ وابنُ عُيَيْنَةَ في المَرْوِيِّ عنهما، وبهِ جزَمَ أبو عبدِ اللَّهِ بنُ مَنْدَهْ. والصحيحُ الأوَّلُ؛ فقدْ قالَ البخاريُّ في (تَارِيخِهِ الكبيرِ): قالَ عَلِيٌّ؛ يعني ابنَ المَدِينِيِّ: سَمِعْتُ سُفْيانَ، هوَ ابنُ عُيَينةَ، يقولُ: قُلْتُ للأحوصِ: كانَ أَبُو أُمامَةَ آخِرَ مَنْ مَاتَ عندَكم منْ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ؟ قَالَ: كَانَ بَعْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ بُسْرٍ قدْ رَأَيْتُهُ. والخِلافِيَّةُ مُترَتِّبَةٌ عليها في وَفَيَاتَيْهِما، فقيلَ في الأوَّلِ: إِنَّها سَنَةَ ثَمَانٍ وثَمَانِينَ. وهوَ المشهورُ، وقيلَ: سَتٍّ وتِسْعِينَ. قالَهُ أبو القاسمِ عبدُ الصمَدِ بنُ سعيدٍ الحِمْصِيُّ القَاضِي، وبهِ جزَمَ أبو عبدِ اللَّهِ بنُ مَنْدَهْ وأبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ وقالَ: إنَّهُ صَلَّى للقِبْلَتَيْنِ. فعَلَى هذا هوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِمَّن صَلَّى للقِبلتَيْنِ، وإِنَّهُ ماتَ عنْ مائةِ سَنَةٍ. وكذا قالَ أبو نُعَيمٍ في (المعرفةِ)، وساقَ في ترجمتِهِ حديثَ: وَضَعَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَدَهُ على رأسِهِ وقالَ: (يَعِيشُ هَذَا الْغُلامُ قَرْناً)، فعاشَ مائةً. وقالَ أبو زُرْعَةَ: إنَّها قَبْلَ سَنَةِ مِائةٍ. وقيلَ في الثاني: إنَّها سنةَ إحْدَى أوْ سِتٍّ وثَمَانِينَ. والثاني أَشْبَهُ،
قالَهُ الفلاَّسُ والمَدَائِنِيُّ وخليفةُ وأبو عُبَيْدٍ. بلْ عَيَّنَ قَتَادَةُ وأبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ والدارَقُطْنِيُّ- كما سَيَأْتِي الإشارةُ إليهِ- لوَفاةِ أَوَّلِهما حِمْصَ. وكذا عَبْدُ الصمَدِ قالَ: وقَبْرُهُ في قَرْيَةِ تنوينةَ. (وَقِيلَ) مِمَّا سُلِكَ فيهِ طريقةٌ أُخْرَى في تفضيلِ نَوَاحِيَ من الشامِ، وهِيَ دِمَشْقُ وحِمْصُ والجَزيرةُ وبَيْتُ المَقْدِسِ: إِنَّ آخِرَهم مَوْتاً (بدِمَشْقَ وَاثِلَهْ)، هوَ ابنُ الأسْقَعِ، فيما قالَهُ سعيدُ بنُ بَشِيرٍ عنْ قَتَادَةَ. وكذا ذكَرَهُ أبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدهْ. ولَكِنْ في كونِهِ ماتَ بدِمَشْقَ اختلافٌ، فالقائلُ بهِ معَ هَذَيْنِ دُحَيْمٌ، وأمَّا أبو حَاتِمٍ الرازِيُّ فقالَ: ببَيْتِ المَقْدِسِ. وقالَ ابنُ قَانِعٍ: بحِمْصَ. وكذ اختُلِفَ أيضاً في وَقْتِهِ، فقيلَ: سَنَةَ ثلاثٍ أوْ خَمْسٍ أوْ سِتٍّ وثَمانِينَ. قيلَ: وهوَ ابنُ مِائةٍ وخَمْسِ سِنِينَ. (وأَنَّ فِي حِمْصَ) كما قِيلَ (ابْنَ بُسْرٍ) الماضِيَ كما سبَقَ (قُبِضَا) آخِرَهم، و(أنَّ بالجَزِيرَةِ) التي بَيْنَ دِجْلَةَ والفُراتِ كما قِيلَ أيضاً (الْعُرْسَ) بضَمِّ العينِ المهملةِ ثمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ ثمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، ابنَ عَمِيرَةَ- بفتحِ أَوَّلِهِ- الكِنْدِيَّ، أَحَدُ مَنْ نزَلَ الشامَ، (قَضَى) أوْ مَضَى؛ أَيْ: ماتَ آخِرَهم فيما قالَهُ أبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ. لكنْ قالَ أبو بكرٍ الْجِعَابِيُّ: إنَّ آخِرَ الصَّحَابَةِ مَوْتاً بالجزيرةِ وَابِصَةُ بنُ مَعْبَدٍ، وكانَ قدْ نَزَلَها. ونَحْوُهُ قَوْلُ هلالِ بنِ العلاءِ: قُبِرَ وَابِصَةُ عندَ مَنارَةِ جَامِعِ الرِّقَّةِ؛ إذ الرِّقَّةُ على جَانِبِ الفُرَاتِ الشماليِّ الشرقيِّ، وهيَ قَاعِدَةُ دِيَارِ مُضَرَ من الجزيرةِ، كما أنَّ حَرَّانَ أَيْضاً منْ دِيارِ مُضَرَ، فاللَّهُ أعلَمُ أَيُّهما الآخِرُ. (وَ) إِنَّ آخِرَ مَنْ ماتَ منهم فيما قِيلَ أيضاً (بِفِلَسْطِينَ) بكسرِ الفاءِ وفتحِ اللامِ وسكونِ المهملةِ، نَاحِيَةٌ كبيرةٌ وراءَ الأُرْدُنِّ منْ أرضِ الشامِ، فيها عِدَّةُ مُدُنٍ، منها: القُدْسُ والرَّمْلةُ وعَسْقَلانُ وغيرُها. والمُرَادُ هنا أَوَّلُها، (أَبُو أُبَيِّ) فيما قالَهُ أبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ ثمَّ الدِّمْيَاطِيُّ في (أَرْبَعِينِهِ الكُبْرَى)، وهوَ بِضَمِّ الهمزةِ مُصَغَّرٌ، أَنْصَاريٌّ مَشْهورٌ بكُنْيَتِهِ، واسمُهُ عبدُ اللَّهِ، ويُقَالُ لهُ: ابنُ أُمِّ حَرَامٍ، وهيَ أُمُّهُ، وهيَ خَالَةُ أنَسِ بنِ مَالِكٍ وامْرَأَةُ عُبادَةَ بنِ الصامتِ. وقيلَ غيرُ ذلكَ. وفي اسمِ أبيهِ اختلافٌ، قيلَ: عَمْرُو بنُ قَيْسِ بنِ زَيْدٍ، كما قالَهُ ابنُ سَعْدٍ وخليفةُ وابنُ عبدِ البرِّ. وقيلَ: أُبَيٌّ. وقِيلَ: كَعْبٌ. وكذا اخْتُلِفَ في كَوْنِ وَفَاتِهِ ببيتِ المَقْدسِ، فقالَ بهِ ابنُ سُمَيْعٍ. ويَتَأَيَّدُ بقولِ شَدَّادِ بنِ عبدِ الرحمنِ: كانَ يَسْكُنُ ببيتِ المقدسِ. وقيلَ: بدِمَشْقَ. فَفِي مَقْبرةِ البابِ الصغيرِ منها خَارِجَ الحَظِيرَةِ قَبْرٌ مَكْتوبٌ عليهِ بالخطِّ الكُوفِيِّ القديمِ: بِسْمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ، هذا قَبْرُ عبدِ اللَّهِ ابْنِ أُمِّ حَرَامٍ، يُكَنَّى أَبَا البَرَاءِ، ابْنِ امْرَأَةِ عُبادةَ بنِ الصامتِ، وبأنَّهُ ماتَ بدِمَشْقَ. جَزَمَ الْكَتَّانِيُّ، وأَرَى قَبْرَهُ للأَكْفَانِيِّ. فإنْ صَحَ فَيَكُونُ آخِرَ مَنْ ماتَ بفِلَسْطِينَ قَيْسُ بنُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ؛ فقَدْ حكَى أبو الشيخِ ابنُ حَيَّانَ في تاريخِهِ عنْ بَعْضِ وَلَدِ سعدٍ، أنَّ قَيْساً تُوُفِّيَ بفِلَسْطِينَ في سنةِ خَمْسٍ وثَمَانِينَ في وِلايَةِ عبدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ. ولكنَّ المشهورَ أنَّهُ تُوُفِّيَ بالمدينةِ في آخِرِ خِلافةِ مُعاوَيَةَ، قالَهُ الهَيْثَمُ بنُ عَدِيٍّ والواقديُّ وخليفةُ وغيرُهم. بلْ رأَيْتُ في ثِقاتِ ابنِ حِبَّانَ مِمَّا حكاهُ شيخُنا أيضاً أنَّهُ هرَبَ منْ مُعاويَةَ سنَةَ ثمانٍ وخَمْسِينَ، وسَكَنَ تَفْلِيسَ، يعني بِفَتْحِ المُثنَّاةِ الفَوقانيَّةِ ثمَّ فَاءٍ، وآخِرُهُ سينٌ مُهملةٌ، أحَدُ بلادِ آذربيجانَ مِمَّا يَلِي الثَّغْرَ، وماتَ بها في وِلايَةِ عبدِ المَلِكِ، فَلَعَلَّ أحدَهما تُصُحِّفَ. (وَ) أمَّا الآخِرُ منهم مَوْتاً بـ(مِصْرَ فَابْنُ الحَارِثِ بنِ جَزْيِ)؛ أيْ: بإبدالِ الهمزةِ يَاءً للضَّرورةِ؛ فإنَّهُ جَزْءٌ، وهوَ الزُّبَيْدِيُّ بضمِّ الزَّاءِ، مُصَغَّرٌ، نِسْبَةً لِزُبَيْدٍ، واسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. وكَوْنُ مَوْتِهِ بمِصْرَ وأنَّهُ آخِرُهُم قالَهُ ابنُ عُيَيْنَةَ وابنُ المَدِينِيِّ وأبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ وابنُ الجَوْزِيِّ في (تَلْقِيحِهِ). وكذا أَطْلَقَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ أنَّهُ ماتَ بمِصْرَ. وعن الطَّحاوِيِّ أنَّهُ ماتَ بِسفطِ القُدُورِ، وهيَ التي تُعْرَفُ اليومَ بِسفطِ أَبِي تُرَابٍ من الغَرْبِيَّةِ قَرِيباً مِنْ سَمَنُّودَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ماتَ باليمامةِ. حكاهُ أبو عَبْدِ اللَّهِ بنُ مَنْدَهْ عن ابنِ يُونُسَ، أنَّهُ شَهِدَ بَدْراً. وقالَ شيخُنا: إنَّهُ خَبْطٌ فَاحِشٌ، قالَ: وأظنُّهُ عَمَّهُ محمئةَ بنَ جَزْءٍ. وكذا قالَ المُصنِّفُ: إنَّهُ لا يَصِحُّ أنَّهُ شَهِدَ بدراً. فإنْ صَحَّ فهوَ آخِرُ البَدْرِيِّينَ موتاً. وكذا اختُلِفَ في وقتِ وفاتِهِ، فقيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ أوْ سِتٍّ، وهوَ المشهورُ، أوْ سَبْعٍ أوْ ثَمَانٍ أوْ تِسْعٍ وثَمَانِينَ. (وقُبِضَ الْهِرْمَاسُ) بكسرِ الهاءِ وإسكانِ الراءِ المُهْملةِ ثُمَّ ميمٍ مَفْتوحةٍ، وآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلةٌ، ابنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ، آخِرَهُم (باليَمامةِ) فيما قالَهُ أبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ. وذكَرَ عِكْرِمَةُ بنُ عَمَّارٍ أنَّهُ لَقِيَهُ في سنةِ اثنتيْنِ ومائةٍ. (وَ) قُبِضَ (قَبْلَهُ رُوَيْفِعٌ) بضمِّ الراءِ وكسرِ الفاءِ،
ابنُ ثابتٍ الأنصاريُّ المَدَنِيُّ (بِبَرْقَةِ) بفتحِ المُوحَّدَةِ الثانيَةِ وبالصرْفِ للضرورةِ، منْ بلادِ المغرِبِ، فيما قالَهُ أحمدُ بنُ البَرْقِيِّ، قالَ: وقدْ رَأَيْتُ قَبْرَهُ بها، وكانَ أميراً عليها. وكذا قالَ ابنُ يُونُسَ: إنَّهُ كانَ أَمِيراً عليها لِمَسْلَمَةَ بنِ مَخْلَدٍ، وإِنَّ قَبْرَهُ مَعْروفٌ بِبَرْقَةَ إلى اليومِ. وعيَّنَ وَفَاتَهُ سنةَ ثَلاثٍ وخَمْسِينَ. (وقِيلَ): إِنَّ وَفَاتَهُ كانتْ بـ(إِفْرِيقيَةٍ) بكسرِ الهمزةِ وسكونِ الفاءِ وكسرِ الراءِ ثمَّ ياءٍ ساكنةٍ، بعدَها قَافٌ مَكْسورةٌ، ثمَّ ياءٌ تَحْتانِيَّةٌ خَفِيفَةٌ وبالصرفِ أيضاً، من المَغْربِ أيضاً، فيما قالَهُ أبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ. لكنْ قالَ ابنُ الصَّلاحِ: إنَّ الثَّانِيَ لا يَصِحُّ. وكذا صَحَّحَ المِزِّيُّ الأوَّلَ، ووقَعَ لهُ في حِكايَةِ كلامِ ابنِ يُونُسَ في وفاتِهِ سَهْوٌ، تَبِعَهُ عليهِ شَيْخُنا في (الإصابةِ والتهذيبِ)، ومنْ قَبْلِهِ الذَّهَبِيُّ، والَّذِي في ابنِ يُونُسَ ما قَدَّمْتُهُ. وفي مَحَلِّ وفاتِهِ قولٌ ثالثٌ، وإِنَّهُ أنطابلسُ*، قالَهُ الليثُ بنُ سَعْدٍ. وقدْ يَشْهَدُ لهُ كَوْنُ مُعاويَةَ وَلاَّهُ طَرَابُلُسَ المَغْرِبِ سَنَةَ سِتٍّ وأربعِينَ، فَغَزَا إفريقيَةَ في التي بَعْدَها، ودخَلَها ثمَّ انصَرَفَ، وقيلَ: إنَّها كَانَتْ بالشَّامِ. (وَ) قُبِضَ (سَلَمَهْ) بْنُ عَمْرِو بنِ الأكوعِ الأسْلَمِيُّ إمَّا (بَادِياً)؛ أيْ: بالباديَةِ، فهوَ آخِرَهم بها، قالَهُ أبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ، (اوْ بِطَيْبَةَ)؛ أي: المدينةِ، (المُكرَّمَهْ) بالرَّسُولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فيما قالَهُ ابنُهُ إِيَاسُ بنُ سَلَمَةَ ويَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ وأبو عَبْدِ اللَّهِ بنُ مَنْدَهْ، ورَجَّحَهُ ابنُ الصلاحِ، وهوَ الصحيحُ. وكذا اختُلِفَ في وقتِ وَفَاتِهِ، فالصحيحُ أنَّهُ سَنَةَ أربعٍ وسبعينَ، وقيلَ: سَنَةَ أرْبَعٍ وسِتِّينَ. ومِمَّا لم يَذْكُرْهُ ابنُ الصلاحِ مِمَّا هوَ في جُزْءِ أَبِي زَكَرِيَّا بنِ مَنْدَهْ المُشارِ إليهِ في ذلكَ، أنَّ آخرَ مَنْ ماتَ منهم بِخُرَاسَانَ بُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ. قُلْتُ: وكانَ قدْ غَزَا إليها في زَمَنِ عُثْمَانَ، ثمَّ تَحَوَّلَ إلى مَرْوَ فسَكَنَها حتَّى مَاتَ في سنةِ ثَلاثٍ وسِتِّينَ. وحينَئذٍ فقدْ تَأَخَّرَ بعدَهُ أَبُو بَرْزَةَ نَضْلَةُ بنُ عُبَيْدٍ الأسلميُّ؛ لِقَوْلِ خَلِيفَةَ: إنَّهُ مَاتَ بعدَ سنةِ أربعٍ وسِتِّينَ. وحَقَّقَ شَيْخُنا أنَّهُ كانَ حَيًّا في سَنَةِ خَمْسٍ وسِتِّينَ، وكانَ بِخُرَاسانَ فماتَ بها. قالَ الخطيبُ: إنَّهُ شَهِدَ معَ عَلِيٍّ قتالَ الخوارجِ بالنَّهْرَوَانِ، وغَزَا بعدَ ذلكَ خُرَاسانَ فمَاتَ بها. وكذا جَزَمَ خليفةُ والواقديُّ وابنُ سَعْدٍ بأنَّهُ ماتَ بها. لكنْ قالَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حَمْزَةَ المَرْوَزِيُّ: قِيلَ: إنَّهُ مَاتَ بنَيْسَابُورَ. وقيلَ: بالبَصْرَةِ. وقيلَ: بمَفازَةٍ بينَ سَجِسْتَانَ وهَرَاةَ. حَكَاهُ الحاكِمُ في (تاريخِ نَيْسابُورَ). وبالرُّخْجِ، وهيَ بضَمِّ الراءِ ثمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثمَّ جِيمٍ، منْ أعمالِ سَجِسْتَانَ، العَدَّاءُ- بِوَزْنِ العَطَّارِ- بنُ خَالِدِ بنِ هَوْذَةَ العَامِرِيُّ. قالَ شَيْخُنا: وكأنَّهُ عُمِّرَ؛ فإنَّ عندَ أحمدَ أنَّهُ عاشَ إلى زَمَنِ خُرُوجِ يَزِيدَ بنِ المُهلَّبِ، وكانَ ذلكَ في سنةِ إحْدَى أو اثنتيْنِ ومائةٍ. وقالَ: إنَّهُ فيما ذكَرَهُ ابنُ سَعْدٍ وفَدَ على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فَأَقْطَعَهُ مِياهاً كانتْ لبَنِي عامرٍ يُقالُ لها: الرُّخَيْخُ، بخائَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، فكانَ يَنْزِلُ بها. ومِمَّا ليسَ في الجُزْءِ أيضاً أنَّ آخِرَ مَنْ ماتَ بأَصْبَهَانَ منهم النَّابِغَةُ الجَعْدِيُّ؛
فقدْ ذَكَرَ وفاتَهُ بها أبو الشيخِ في (طَبَقاتِ الأصْبهانِيِّينَ)، وأبو نُعَيْمٍ في (تاريخِ أصْبَهانَ) بعدَ أنْ عُمِّرَ طَوِيلاً. وكانَ مُعاويَةُ سَيَّرَهُ إليها. وبالطَّائِفِ عبدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ، وقدْ زُرْتُهُ. ومِمَّا لم يَذْكُرْهُ المُؤلِّفُ أيضاً: آخِرُ مَنْ مَاتَ بِسَمَرْقَنْدَ قُثَمُ بنُ العَبَّاسِ شَهِيداً، وهذا على الصَّحيحِ. وقيلَ: بلْ بِمَرْوَ. وبوَاسِطَ لُبَيٌّ بلامٍ ومُوحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، ابْنُ لَبَى بِمُوحَّدَةٍ خفيفةٍ وَزنُ عَصًى على المُعْتمَدِ فِيهِمَا كما سيأتي، وكانَ يَكُونُ بها، قَالَهُ أبو بكرٍ الجِعَابِيُّ في (تاريخِ الطَّالِبِيِّينَ). وقَدْ جَمَعَ الصَّغَانِيُّ اللُّغَوِيُّ جُزْءاً فيمَنْ عُرِفَ أَمْكِنَةُ وَفَاتِهِ من الصحابةِ، سَمَّاهُ (دَرَّ السَّحَابَةِ)، وهوَ عندِي بخَطِّهِ. واختصَرَهُ خَطِيبُ دَارَيَّا، وفيهما فوائِدُ معَ احتياجِهما إلى تَنْقِيبٍ. ومِمَّا يُشْبِهُ ما تَقَدَّمَ أنَّ آخِرَ مَنْ ماتَ من البَدْرِيِّينَ بِقَيْدِ الأنصارِ أَبُو أُسَيْدٍ مَالِكُ بنُ رَبِيعةَ الساعديُّ، فيما قالَهُ المَدَاينِيُّ وأبو زَكَرِيَّا بنُ مَنْدَهْ. أوْ أَبُو الْيَسَرِ كعبُ بنُ عمرٍو، فيما قالَهُ ابنُ إِسْحَاقَ ثمَّ ابنُ الجَوْزِيِّ. وآخِرُهم بقَيْدِ المُهاجِرِينَ سعدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وهوَ أيضاً آخِرُ العَشَرَةِ مَوْتاً. وآخِرُ مَنْ شَهِدَ بيعةَ الرِّضْوَانِ مَوْتاً على ما تَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أوْفَى. وآخِرُ مَنْ صَلَّى للقِبْلَتَيْنِ موتاً على ما تَقَدَّمَ أيضاً عبدُ اللَّهِ بنُ بُسْرٍ. وآخِرُ مَنْ شَهِدَ العقبةَ موتاً فيما قالَهُ ابنُ الجوزيِّ جَابِرٌ.
وآخِرُ مَوَالِي النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ موتاً سَفِينَةُ. وآخِرُ أَزْوَاجِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ موتاً مَيْمُونَةُ فيما قالَهُ الواقديُّ وغيرُهُ. وقيلَ: أُمُّ سَلَمَةَ، كما رَوَاهُ يُونُسُ عن ابنِ شهابٍ. قالَ شَيْخُنا: وهوَ الصحيحُ. وفي صحيحِ مُسْلِمٍ ما يُقَوِّيهِ. وأغْرَبَ ابنُ حَزْمٍ فزَعَمَ أنَّ صَفِيَّةَ آخِرُ الزوجاتِ مَوْتاً. وقالَ غيرُهُ: سَنَةَ خَمْسِينَ. وقيلَ: سَنَةَ اثنتيْنِ وخَمِسينَ. وقيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.
|